قصر سلام

كالشمس والقمر كانا حقيقة لا تخفى على مخلوق في الكون أجمع، لم يكونا سرابًا أو وهمًا كما كانت الذكريات الخميلة تخال، كانا وما زالا مجموعة تجارب على مرّ الزمان شكّلت شخص الانسان الأخير الذي يعيش الآن.
ويكأنهما شجرتان عملاقتان على حافتي جادة تؤدّي إلى مجموعة طرق، شجرتان جميلتان لا تدري أجمعهما المكان صدفة أم أنّ الزمان تعمّد بعض الشيء ذلك.
بعض الأشجار بتشابك الفروع تلقي السلام وتتصل، تدرك البصيرة ما لا يدركه البصر. نمرّ في الحياة بعلاقاتٍ كثيرة فتّانة مثل ذلك، أسر وعوائل وصداقات وزملاء عمل، نظن أنهم على صلة متينة، وما إن نقترب شيئًا يسيرًا حتى تتجلّى الحقيقة.
كم مرّة توهّمت أنّ هذا البيت مثل معظم البيوت سكن؟ هكذا الكل يظنّ، لكنّ ندبة ألمٍ في عين الأم كانت تئنّ دونما صوتٍ: إنّ بيتي لا يشبه البيت في شيء، ولا أيّ شيء.
ثق بالحفيف فعنده كلّ الحكايات، تمالك نفسك، لا تُخْفِ دهشتك ولا تَخَفْ، لا يأخذك الذهول من المعرفة ولا ترتبك.
***
متى ينبض القلب بالحب أوّل نبضة؟ هل مذاقه أخّاذ حقًا؟
حين سُئل جمعٌ من الناس عن تعريف الحب تمنّيت أن أسأل السائل للكره تعريفًا، فنحن بالحب عشنا ما مضى وبه نعيش الباقي، ولكنّ ظلم العباد للعباد يدفعهم لتجربة الكره رغمًا عنهم والكل لمثل ذلك الضنك في الأعمار لا يريد.
الحب أن تستيقظ كلّ يومٍ بشغفٍ وحماسةٍ للمحاولة مرة أُخرى، الحب إدراكك أنّ لكلّ حدث من أحداث الحياة حكمة، وأنّ لطف الخالق ماضٍ في المجرّة لا محالة.
***
إنه صباح الخامس من شباط لعام ألفين وثلاثة وعشرين، أظنه طارق، من غيره يطرق باب الرسائل كلّ حين؟ يرسل رسالة متابعةٍ واهتمام للمرة الثالثة بعد الألف، يخلص في عمله، يتقي الرزّاق فيما رزق، يؤكّد المواعيد، يسأل عن انطباعنا تجاه أدائه الوظيفي وأداء من يعمل معهم، عن صرحهم البنّاء، عن رأينا تقييمنا والمقترحات، عن كل ما يدل على أنّه يعي انتماءه لفريق عملٍ يلتمس بالإتقان طريقًا إلى الجنة، ويرنو بعمله التألّق اللائق برؤية الله ورسوله والمؤمنين للأعمال.
لم تر المرسل إليها وجه طارق الذي لا يملّ الطرق قط، لكّنها لطالما تبسّمت أثناء تأمّل اسم عائلته، هذه عائلةٌ تحبها منذ نعومة أظفارها، هذه ذكرياتٌ ممتدّةٌ من جنينتها المحفوفة بالحلم هنا إلى جنة المأوى هناك.
أخبرني يا طارق: متى تفقد أظافرنا نعومتها في الحياة؟ محدّثتك لم تتمتع برفاهية الأظفار الناعمة يومًا.
أتدري يا عابر السبيل أنّنا كثيرًا من الأعمار لا ندري بأنّنا كنّا لم ندر شيئًا بعد، وأنّ كل ما ظننّا درايته بدا أصنامًا قابلةً للنسف حين أدركت النّفس أنّها مع الحرية على موعد.
أتحين الأوقات في الأعمار حقًا أم أنّنا نحن من نتحيّنها؟ لماذا يحتاج المعلّم بين فترةٍ وأُخرى لمعلّمٍ كي يرشده؟ حتّام نتوضأ من توجيهاتٍ هشّةٍ عرقلت شيئًا ما بين الجوانح لنؤهّل لقيادة أنفسنا بأنفسنا دون مساعدة أو توجيه من أحد؟
***
الطارق العزيز: ها هي ذا قاصّة الحكايات تقصّ حكايةً من جديد وتطرح أسئلة ليت لها تجيب، لعلّ دورك قد حان في الحصول على واحدة، أو لعلّه أوان تلك الحكاية الملغومة بعلامات التعجب قد آن كي تنتقل إلى هناك.
أين يقع هناك؟ لا يدري أحد.
هل وصل أحد ما إلى “الهناك”؟ لن ينبس ببنت شفة أحد.
كل ما نعرفه أنّ هناك هو وطن آمنٌ للمشاعر والأحاسيس وأصحابها وحسب.
***
كان ولا زال في مكان لن يزول ليس في سالف العصر ولا في سالف الأوان طفلٌ وحيدٌ يتخفّى في هيئة رجلٍ فظٍ ذو حظٍ عريض، رجلٌ ناضج واع مهيب، شعره كشعوره رماديُّ اللون ليس بالكئيب، بين التجاعيد والقسمات عينان لا تشبههما العيون، بهيّ الطلعة وضّاء المحيّا، صوت الحديث تغريد عندليبٍ حزين.
الوحيدون في الحياة أناسٌ عالقون في بوتقة، عالقون للغاية، يعيشون نفاقًا اجتماعيًا مقيتًا يُثقل النفس ويحمّلها ما لا طاقة لها به بكامل إرادتهم وبصميم اعترافهم.
لأجل ماذا؟ لأجل لا شيء يُذكر عند الخواتيم.
إرهاقُ الذات إزهاقٌ لها لو يعلمون، مراهقةٌ متأرجحةٌ ما بين إهراق وإحراق، إعتاقها باللّامألوف يتطلّب شجاعة في زمن رُبّيت فيه أجيالٌ على: “امش الحيط الحيط وقول يا رب السترة”.
أيُّ سترة تلك التي بها أستتر إن كانت النفس تخادع النفس وهي تعلم أنّها تصارع البرد القارص والعتمة البالغة؟ إلى أين تمضي بنا الصراعات التي ليس لنا منها فكاك؟ حتام نتجاهل أنّ السلام النفسي وليد الترفّع عن سفاسف الأمور والتخلّي عن المعارك اللّامجدية؟ أليس التجاهل إنكارًا؟ أليس الإنكار بطلّاب العلم لا يليق؟ أليس طلب العلم ضربًا من ضروب طلب الحياة؟
لم تكن صاحبة المعارك الرابحة والصباحات البلسميّة في ذلك المساء متأهبةً بما فيه الكفاية لتخوض معركة مباغتة مع أحد، كانت تظنّ أنّ معركتها مع طفلةٍ مُغيّبة عن كثيرٍ من الإدراك ولا شأن لها بتغييب الملامح القسري الذي حصل، فلا وجه لها على مرآتها كي تراه ولا صوت ليسمعه بشر.
من كان يظنّ أن طفلةً في غربة عن جسدها ستلتقي طفلًا قابعًا في جسد عجوز على غير ميعاد؟ لماذا لم ينبهها أحدٌ أنّ خطورة استشارة غير المختصّين حتميّة؟ كيف لا نتنبّه إلى أنّنا قد نؤخذ بالكنى والأسماء فنحسن الظن بأنّ فلانًا حسن السجايا مؤهّلٌ للمساعدة لكونه ينحدر من عائلة كذا وكذا؟
كيف نتناسى بسبب بريق الأصول الفتّان ذاك أن ثمّة ثمرة فاكهة متعفّنة تأبى استكبارًا بين الثمار المحيطة بها الاعتراف بأنها تضمر السوء لمن ليست مثلهم، وأنها تشتهي للجميع بعدائيةٍ بلا استثناء التأثّر بها ما دامت بينهم، كي لا تُقصى عنهم، وكي لا تظلّ الدميمة الوحيدة.
في ذلك المساء أرسلت ناشدة السلام للطارق رسالة تلتمس فيها علمًا، تريد أن تفهم نفسها والأنفس، أن تتخلّص ممّا لم تعد تطيق لرفقته تحمّلًا وتبريرًا، أن تتخفّف، أن تعين طفلة في العبور إلى أشدها ورشدها لتتباهى بإنجازاتها كما يحق لمنجزي الإنجازات بما أُنجز التباهي.
أن تقول بصوتٍ جهورٍ على الملأ: نعم أنا فعلت وأنا التي لم تفعل، نعم أنا ظُلمت وأنا التي بما لا شك فيه بفضلٍ من الرحمن لم تَظلم.

نعم أنا أستحق وأدرك أنّ الاستحقاق متفاوتٌ بين الخليقة وأنّه لا يرتبط بزمان أو مكان أو عمل، الاستحقاق ناموسٌ كونيّ لا يحابي الكسالى مُتمنّي الأماني، سرٌّ لا يُعلم له توقيتٌ أو هيئة ولا يقبل شَرطيّة أو توقّع.
لم ترد بلسم أكثر من أن تتصالح مع تلك الطفلة التي ألزمتها ما لا يلزم وحمّلتها مع الناس ما لا طاقة لكلتيهما به، كانت تريد أن ترى في صحوها ومنامها أحلامًا جديدة، ألا تهدر تفكيرًا بعد اليوم في مغزى تكرار حلم بعينه، أن تضجّ بالبهجة لتحقيق الأهداف، أنّ يضجّ زبرجد من ضجيجها اللّا منتهي، أن تنسى، أن تنساه، ليس إلا.
***
هل نحبّ أمهاتنا حقًا؟ لماذا أجمعت الأشعار والحكايات على استحقاقهنّ ذلك؟ لماذا تستحق الأمهات حبّ الأبناء مهما أساءت؟ ما هو عقوق المربّي؟ هل الجميع مؤهلٌ للتربية؟ ما هي التربية؟
أيعقل أن تربّي الأمّ صغارها دون أن تتدفّق رحمتها خالصةً مع كل توجيه متزن؟
هل من البر تناسي الألم أيًا كانت حدّته؟ أم أنّه تناسي الإهانة؟ لماذا يتحوّل المُهين عاريًا في عين من أهان إلى الأبد؟ هل يدرك أنّها تجرّدٌ من الإنسانية لا يغتفر حسّيةً كانت أو معنوية؟ هل ثمة أمهات تهين الطفولة بدعوى التربية حتى يومنا هذا؟
سل متلقّي الصفعات أيّتها كانت على النفس الأشد، أتراها الأولى أم أنها العاشرة؟ أتراها التي مسّت الروح أم أنها التي انهالت بجنون على الجسد؟
لماذا لا يفهم المسيء أنّ الاعتذار تعافٍ للذاكرة؟ كيف لا نتقلّد ما نفهمه؟ هل تخطئ الأمهات كما الأطفال تفعل؟ هل تبدو جميع أخطاء الأمّ مغفورة؟ هل المغفرة ضرورة؟ هل كانت جميلة أيضًا كما سائر الأمهات أمك؟
= أمّي الأجمل بلا منازع، أمّي أجمل أمهات الكون كله، لازلت أذكر شعرها الناعم الطويل، لا شعر في الدنيا يشبه شعرها، لا خصر يشبه خصرها، لا حضن يشبه حضنها، لا دفء يشبه دفئنا في قربها ولكن…
– ولكن؟
= ولكنّ ظلالها كانت خطيرة، كانت صعبة المراس حادّة المزاج قاسية الطبع كما لا تكون الأمهات، رقيقة كورق الجهنّمية فتّانة الألوان عذبة المعاني لكنّ أشواكها حاضرة على الدوم جارحة، لست أدري لماذا كانت تمتلك مثل تلك الأشواك، لكنّ ما أدريه أنّي لطالما بها جرحت.
– كم تحبها؟
= حبّ الحياة ربّما.
– كم تحبّك؟
= حبّ الحياة بلا شك، بلا أدنى شك.
– أين تكمن المشكلة إذن؟
= في أثر تلكم الجروح البالغ الذي أبى أن يندمل، الخدوش التي خلّفت عبر السنين أثرًا لا يرى بالعين المجرّدة إنّما يرى فيما تراه الأفئدة.
– والحل؟
= الحل ألا أكون مثلها، ألا أجرح طفلي لأنّ بي جرحًا لا يراه، ألا أضعه في معارك خاسرة، ألا أحمله مشقة البحث عن الأجوبة التي لا احتمال لغيرها، أن أكون صريحة وواضحة، ألا أكون صبّارة ولا جهنّمية، أن أكون أمًا بلا أشواك، أمٌ لا تجرح، أمٌ جميلة القلب والقالب.
– أيّ الزهر مثل ذلك؟
= لا تسعفني الذاكرة الآن.
– ماذا لو أنّي أخبرتك أنّ زهرة بلا أشواكٍ قد تكون زهرةً بلا رائحة، أيطاق العيش مثل ذلك؟ أبقي في الكون سذّج يعيشون وَهْم الشمعة التي لأجل الآخرين لنفسها تُحرق؟
– أطفالنا ليسوا آخرين.
= ونحن أيضًا لَسْنا.
– إذن؟
= إذن نتصالح مع الشوك لأنّ وخزه يلزم المتطفّلين حتمًا، نحميه ونحتمي به ونحمي العابرين منه.
الشوك قوة، والقوة حماية الأنفس بالأنفس ما استطعنا. هل سمعت عن ضعيفٍ يحمي نفيسًا بضعفه، لا أظن، أنا لم أسمع.
– ربما لو كانت بلا أشواكٍ لما كان ما كان.
= بل ربما لأنّك حاولت أن تحمي نفسك من أشواك أقرب الناس إليك فاجأتك الحياة بأشواكٍ أُخر وجعلتك تقارن ما بين أشواكٍ وأشواك.
– أأحكي الحكاية؟
= احكها يا شهرزاد.
***
حين أخبر طارق الطفلة أنّ أقرب موعدٍ متاح سيكون خلال شهر من تاريخه شعرت بإحباطٍ شديد. هل يدرك طارق أنّ بعض الأطفال يهرعون إليه كي يساعدهم الحكيم الذي يعمل معه على عجالة؟ لست أدري.
أرجو أنّ طارق اليوم يعي على أيّ ثغرٍ في حياة الضحايا والناجين يرابط، كي يميّز بين أنواع الرسائل المرسلة إليه من القراءة الأولى.
كانت حالة حرجة مستعجلة، المستعجل أمرٌ يقع ما بين بينين، أمرٌ يَخشى ما لا يفهمه، أمرٌ يخشى الموت قبل استنفاذ كل سبل الحياة. أبكمٌ ينطق للمرّة الأولى في العمر ولا يدري ما عساه أن يقول.
لن أقول: لو كان طارق في ذاك المساء مؤهّلًا بما فيه الكفاية لإسعاف طفلة ربما لما آلت الأمور إلى ما آلت إليه لاحقًا، لن أقولها ليس لأن لو تفعل فعل الشيطان فحسب، بل لأن الشيطان فعل فعلته دونما قولها حتى.
تتسلسل الأحداث في الحياة تسلسلًا ممنهجًا نحسبه بسطحيّة عشوائيّا فوضويّا.
في ذلك المساء علم طفلٌ عتيق عهدٍ بالحديث أنّ طفلةً حديثة عهدٍ به ترغب بالتحدّث، انقلب السحر على الساحر وخلال ساعاتٍ صارت الرؤية بعض الشيء ضبابية طُرق باب التي تَطرق، ونسيت البكماء سهوًا أنّ ذات الأشواك لطالما علّمتها ألا تفتح للطارقين قبل التثبّت من العين الساحرة.
كما تكذب مرايا جنيّات الأساطير وتجيب بما يهوى سماعه السائلون تكذب عين الباب كثيرًا فنرى بعد فتحه عن قربٍ شخصًا لا يشبه شخصه البعيد البتة.
أمام الباب يلتقي طفلٌ وطفلة، تبكي ثلاث ساعاتٍ متصلة ويتأمّل بخشوعٍ دمع عينيها المنسكب، تبكي إلى أن يرغب ترتيل الألم معها بالبكاء، تبكي إلى أن تترنّح الثقة وتسقط المسلّمات مغشيًا عليها من شدّة التعب.
ماذا لو أنّنا أدركنا أنّ المشاعر تركيبة معقدة عصية على الفهم حتى النهاية، ماذا لو أنّنا غضضنا النظر عن تجاعيد البشر ولم نؤخذ بحشرجة الأصوات وأدركنا أنّ طفلًا يقبع في زاوية ما من الزوايا من اللحظة الأولى حتى اللحظة الأخيرة.
البعض طفله ينام باكرًا نومته الطويلة، والبعض نومه مضطرب غضبه يفوق الغضبات قائمٌ على الدوم لا يقعده عناق ولا تسكنه سكينة.
حين همّ الطفل بلثم جبهة البنيّة عادت لملامحه التجاعيد، ضربت براحتيها نحره ولفظت جسده إلى البعيد، صفعت الباب في وجهه وطمست العين الساحرة فلا حاجة للأصيلة بأعينٍ سوى عينيها بعد تلكم الكبوة الغريبة.
تأمّلت وجهها على المرآة، ثمّة زهرٌ على الوجنتين، ثمّة غمّازة، نصف غمّازة، ثمّة ملامح، ما هذا الذي أرى؟ أترانا بوخز الشوك نكبر؟ أتراها أثار الألم على الذكريات تُحمد؟ ربّما.
في تلك الليلة تمنّت الحسناء أن ترسل رسالة لطارق، أن تقول له إنّها لم تعد بحاجة إليه، أنّه وضعها في موقف سخيفٍ جدًا حين لم يقدّر ضرورة الالتفات إليها، أنّه لا يستحقّ ثقتها، أنّه وأنّه، وعشرون ألف أنّه. لكنّها تراجعت لأنّ أشواك الشوق أنضجتها فنامت نومتها العميقة من بعد سهادٍ طويل.
مضى عامان والبنيّة تغطّ في نومتها السعيدة، تتقلب بين الذكريات لا يعكّر صفوها أحد.
البعض يستيقظ على صوتٍ ما والبعض توقظه على أحد الخدّين قبلة والبعض قد لا يفلح في ايقاظه مثل عطرٍ أو رائحة، للاستيقاظ طرائق لا تعدّ ألطفها تلك التي تكون بعد نومة هنيئة.
ثمّة شعور أذكره، كأنّ الطفلة على وشك الاستيقاظ، من حرّك الشعور دونما استئذان مرّة ثانية؟ هل نحتاج الهروع إلى طارق؟ لماذا يهرع الأطفال إلى طارق دومًا مع أنّه لا يهرع إليهم؟
ردّ طارق، لم تكن مستاءةً كما في المرّة السابقة، لها عنده حاجة، بينها وبين كحل العين قضيّة لا بدّ لها من حسم. كانت المرآة قد أرتها عينيها كما لم ترهما من قبل، كانت مفتونة بالترقوة وقد أخذ الذهول منها مأخذه لتسارع الأسئلة الرهيبة.
كانت تريد أن تسأل مرآة واحدة في الحياة صادقة: لماذا كثيرًا ما تكذب علينا المرايا؟ لماذا نتمنى لو أنّنا لم نر الملامح من بعد رؤيتها للمرة الأولى عن قرب؟ لماذا ندرك متأخّرا أنّ بعض الجمال جماله ألا يُرى؟ لماذا؟
ذات ضحىً التقت الطفلة خاصتنا بالحكيم أخيرًا، الحكيم البسّام الذي لا يعرف بعد أن الكواليس لها كواليس أيضًا، وأنّ أشجع الأطفال أولئك الذين تصفهم أمهاتهم بأنّهم صعبوا الإرضاء مسايستهم مستحيلة.
كانت بنيتنا تريد الثرثرة بعشرات القصص في الغرفة الصغيرة، تريد أن تسأل عشرات الأسئلة، أن تشكو المرآة والعين السحرية والطفل المناور اللئيم، أن تجد حلًا تتصالح به مع الكحل والمرآة، ألّا تربكها الدهشة بتفاصيل الملامح الجديدة، أن تتقبلها وتمنحها الحب بسخاء، أن وأن وعشرة آلاف أن، ولكنّ الحكيم صاحب السؤال القصير: “ما الهم؟” كان هادئًا جدًا كما الحكماء في العادة، ما إن لَمَحَت عينيه حتّى توارت كلّ الأسئلة خلف حجاب وبدا في فضاء النفس سؤالٌ واحدٌ ملحٌ مستاءٌ ليس إلًا: أخبرني بربّك هل عاقبت طارق؟
أيّ سؤالٍ طفوليّ هذا؟ كيف ستشرح له أنّ طارق مزعج جدًا؟ أنّ طفلة ما في الحياة بحاجة ماسة أن تلتقيه، أن تبرحه ضربًا ثمّ تسقط مغشيًا عليها من فرط السعادة! سعادة الانتصار لطفولتها التي تعرّضت لما لم يكن بالحسبان بسبب عدم نباهته آنذاك.
ماذا لو أنّ طارق وسيمٌ بعض الشيء؟ بعض الشيء لا أكثر، هل سيستحقّ العقاب أم أنّها ستنظر في أمر سماحه؟
هل أخطأ طارق دونما قصد كي تتفتق في الحياة زهرة؟ أم أنّه زارع أجنحة لكلّ من عزم على التحليق دونما عودة، ربما هو دون عمد كذلك.
***
في السادس من شباط استيقظ العالم فجرًا على زلزالٍ دمّر البلاد وأزهق العباد، زلزالٌ زلزل البشريّة جمعاء وذكّرها راغمةً أن ثمّة نهاية في النهاية، أنّ الزلزال ليس كارثة لحظيّة إنّما تذكار قلب لمن كان له قلب كي نعقل ونتوكّل، كي نقارن حالنا بحالنا مع زلازل النفوس كيف تُستجمع الأنفس فيُنقذ من تحت الأنقاض ما يمكن إنقاذه، وكيف نحاول ما استطعنا لملمة الشتات وبذل الوقت والمال وكلّ ما بالوسع أن يُبذل.
ربما لن تنسى البلسم أبدًا أنّ الطارق استأذنها تأجيل موعدها في مثل هذا اليوم صدفةً، ربما كانت ستستاء لو أنه لم يُلْغَ لأنّها لن تستفيد منه الاستفادة المرجوّة في ظلّ الساعات الجارية.
***
في السابع من شباط عند الرابعة وسبعة عشر دقيقة صباحًا استيقظت الأمّ على صوت مريعٍ لكنه بالتأكيد ليس صوت زلزال، تفقّدت غرف البيت على عجالة، ربّما أسقطت الهرّة كأسًا ما والجميع نيام، تُغفر أخطاء الطوّافة الناعمة دومًا ولا يُعلم لماذا.
لماذا المهمة حقًا الآن: لماذا كانت الهريرة مستيقظة؟ من يدري.
***
لم يكن شباط لهذا العام شباطًا عاديًا ولا كون عاديٌّ بعده البتة، كلّ زلزالٍ نفسيّ ليس زلزالاً يُذكر في حضرة الزلزال الكارثيّ الفظيع.
عند كلّ ألمٍ سنتقوّى بآمال منقذي الزلازل بأن تخرج على أيديهم من تحت أنقاض الموت حياةٌ ومن بين ركام الآلام معجزة، عند كلّ ضعفٍ سنستمدّ قوّة من صدق إيمانهم، عند كلّ ترنّح سنقف بشموخ وثبات وعزيمة واستقامة ونقول لمن تحت أنقاض الهموم: كلّنا طارق.
هل قلت طارق؟ نعم قلت.
أتدري من الطارق؟ أتدري من هما الطفلان ومن حكيم الحكاية؟ أتدري معنى أن تكون في الحياة منقذ زلازل؟ سل طارق.
شكرًا لصاحب الأسئلة القصيرة وشكرًا لطارق، والشكر موصولٌ للزبرجد الحاضر الغائب، شكرًا لمنقذي الزلازل أنّا كانت مواقعهم وأنّا اختلفت مسمّياتهم، وشكرًا لأولئك الذين يدركون خطورة ما يخلّفه زلزال، وشكرًا لكلّ من يستحق شكرًا في الحياة ما حيينا.
***
نقاء السريرة في المسير بصيرة، لطالما تبع النقاء بقاء. قد تبقى على بساط الريح فترة ضوئيةً من الزمن ليست بالضرورة من العمر محسوبة، قد تستريح لخيمة قضيت فيها أحلى اللحظات، قد تشتاق لما لا يفهم العقل كيف لمثله ترسل الأشواق، قد ينهر القلبُ العقلَ ذات حبٍ في الحياة أن أطبق عليك فلسفتك وليسعك نضجك وإياك أن تنبس ببنت فكرة لأنّها في حضرة الخفقات لا تجدي ال “لماذا”؟
ثمّة شغاف قلب يتضوّع بأسئلة الياسمين ويفوح شذًى من حنين. ثمّة مذاق للشاي لا زلت تذكره كان في سالف الأوطان فوق الحصيرة، وثمّة ضحكة لا تنساها في ذلك البيت العتيق الواقع في مزرعة الجد البعيدة.
ثمّة “ثممٌ” لا تعدّ من الذكريات التي لها لا ننسى لأنها لنا لا تنسى، ثمّة شتاء، وثمّة أربع وثلاثون ثمّة لم يعرف أسرارها سواها.
ثمّة زهور صفراء كانت لها ولها ستبقى ما بقي الربيع وما بقت، ثمّة عريشة بكت لأنها تعلم علم اليقين أننا بعد الرحيل لا نعود، وثمّة مخزن خردوات لا خردوات به البتة خُبّأت في زاويته لعبة طفلٍ لم تُكتب له في هذه الدنيا ولادة.
ثمّة أفراح في الفردوس لنا تنتظر، ثمّة غلمانٌ مخلّدون، وثمّة حور عين. ثمّة بيت وثمّة سلام، ثمّة نور وحبور، وثمّة قصور.
ما أغرب حالنا مع ثمّة، أترانا لا نثق بالقوة الخارقة التي تمتلكها ثمّة، أم أنها تستفزّنا ثمّة؟
لو أنّ لثمّة صوتٌ له نسمع فما عساها تقول؟
بين الخردوات التي لم تكن كذلك كانت تستلقي على سقف مخزن الأمنيات الأثيرة “ثمّة”، ينهمر شعرها الغجري حتى يمسّ لعبة الطفل التي لم يلعب بها أحد، يبدو للعابرين كثريّا جميلة رهيبة في الوقت ذاته. الشجعان فحسب هم من يصطحبون من الجمال أرهبه.

في الرابع من آذار من العام المنصرم نطقت لمدة خمسة عشر ثانية ثمّة. قالت أنّها ممتعضة، أنّها تشعر بالأسف لأنّنا لها لا نفهم، وقالت أنّها ترجو لنا بالأناة والرغبة أن نتعلّم.
قالت أنّها حبلى بالسعادات لكنّنا نستعجلها الولادة، قالت أنّ السعادة التي تولد قبل أوانها لا تنضج بسهولة، لا تكبر، قد تموت وأنها بلا شك لا تعمّر، قالت أنّ الطفل موجود ما دامت الألعاب موجودة، وأنّ الحكايات الحلوة ليست تحلو بمثل ثمّة.
حين تموت ثمّة تولد ألف ثمّة وثمّة، حين تتعب ثمّة تستشفي بثمّة، وحين تملّ ثمّة تسليها ثمّة.
أولئك الذين يريدون في الحياة ما بعد ثمّة، عليهم الإيمان بما تملكه بين حنانيها للسعاة في الحياة ثمّة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *