ماذا لو أنّنا اعترفنا معًا بجسارةٍ أن ثمّة حبًا في الحياة لا تنطبق عليه القواعد ولا تسري عليه الأحكام والقوانين مهما جرى؟ حبٌ عذريٌ فطريٌ مشروعٌ لا مشروط واضحٌ صريحٌ يولد معنا حين نولد وحين نموت لا يموت.
صباح الحب لبلادنا التي تتوضّأ وجوهنا طيفها كلّ صباحٍ ونتمثّل لطفها معنا ونمثّل تربيتها لنا عند كلّ مسألة، البلاد التي نحملها معنا إلى أُسرتنا وأسرِّتنا كلّ مساءٍ أينما ارتحلنا وحيثما حللنا فنقتات الأمنيات ونقصّ الذكريات ونلتحف من ثمَّ الدعوات أن يحفظها الرحمن وأرحامنا فيها بعينه التي لا تنام.
صباح الخير يا دمشق، صباح الحب يا حلب، صباح الضحكة الحلوة يا حمص الأحلى وصباح النور يا حماة، وصباح الصباحات الأرق والأرقى لكلّ مترٍ مربّعٍ خلف تلك الحدود التي تقف عندها مشاعرٌ لا تحد ولا تعد.
صباح المفاتيح القديمة التي لم تستخدم منذ سنين، صباح البيوت مغلّقة الأبواب على الحنين تشتاق إلى سكّانها وسكّانها مثلها كذلك، صباح الشمس تزورها بيتًا بيتًا كلّ صباحٍ تلثم أصواتًا ما فارقت الأسقف وتهديها الهدوء والسلام، تزورها وتطبع قبلةً على خدّ مطبخ الحنونة الذي كان مصنع السعادة ومحرّك الحياة الأوّل في شتّى العائلات على مرّ الزمان.
صباح الخير للعناكب التي تثرثر كلّ صباحٍ أنّنا لم نعد بعد لننقض لها أنكاثًا بيوتها الواهنة التي غزلتها بالقوة ظلمًا وعدوانًا في زوايا بيوتنا، صباح الخير للخوف القابع فيها من تلكم العودة المبينة التي لا بدّ أنها آتيةٌ لو أنها تعلم ذلك علم اليقين كما نعلم، صباح الخير لخشيتها من ذلك الصباح الذي تفتح فيه على الحي ستائرٌ وشبابيك من بعد إغلاق وتتفتّح على الشرفات خمائل وأزاهير من بعد فراق وتزالُ عن الأثاث العتيق مفارش بيضاء بالية طال رقادها لتتدفق مياه الحياة لفتحٍ مبينٍ طال ترقّبه وانتظاره معلنةً بالحمد والتسبيح عودة كلّ شيءٍ حيٍ كما كان وأفضل، كلّ شيء.
صباح الشمس تمسح الغبار عن خزانات الأحذية المهترئة عند تلك المداخل وتقول لهم أنّا وإن كبرت مقاسات أقدامنا وإن بلغنا من الكبر عتيًا وتغيّرت أطوالنا وأوزاننا وملامحنا وأذواقنا وشاب شعر البعض وفُقِدَ رغمًا عنّا مع الأيّام بعضٌ آخر وبدت التجاعيد على الجبين وعلى طَرَفَيْ العينين فلا بدّ أنّا يومًا ما نعود. بمعجزةٍ كونيّةٍ سنعود. ناموس الكون وسنّته الأزلية أن نعود. بِكُنْ من مالك الكون سيكون ما لم يكن بعدُ حتى اليوم، كُنْ واحدةٌ كفيلةٌ بقلب الموازين وترميم الجراحات وسكون الأفئدة وإعادة توازن الأنفس للأنفس من جديد. أليس باعثًا للطمأنينة أنّ السعيَ مُرتهنٌ بحرفين لا ثالث لهما؟ فإلام التأفّفُ وعلام القلقُ وحتام الاستبطاءُ ما دمت تسعى بالإيمان خالص السعي الحثيث؟
صباح الخير للمعلّم المبجّل النبيل، ألف صباح الخير له، صباح الخير لعطائه الذي ما نضب لحظةً حتّى حين كان كلّ خيرٍ حولنا على وشك ذلك، صباح الخير للجار الذي استشهد، لأرملته التي تربّي بالحزم عباقرةً صالحين ومُصلحين، ألف ألف صباح الخير لها، صباح الخير لعامل نظافة الحارة صاحب أحلى بسمةٍ وأصدق رضًا ويقين. للطفل بائع المناديل الورقية والطفلة بائعة أكياس السكاكر وباقات الزهور، لحارس العمارة وبائع الكعك والحليب ولعزيزة القوم الطوّافة على رزقها في البيوت تعي أنّ هاتين الراحتين خُلقتا للعمل لا للتسوّل، وأنّ عزيز القوم يبقى عزيزًا ما دام على رأس عملٍ شريفٍ أيًا كان.
صباح الخير للذين هاجروا، والذين لم، والذين لن، صباح الخير للمهجّرين، صباح الخير لمن قضى نحبه، صباح الخير لمن ينتظر، وكلّ صباحات الخير لكل الذين ما بدّلوا تبديلا.
صباح الخير لبيوتٍ ذهبت مع الريح، ولبيوتٍ ذهب سكّانها معها كذلك، ولريحٍ تعرف أنّنا لا يذهب منّا ولا لنا ذاهبٌ رغمًا عنّا وأنّا عمّا قريبٍ بإذن القريب نأتي الريح ونأتي الأرض ننقصها من أطرافها وما ذلك على العزيز بعزيز.
صباح الخير لمراقد بعيدة بُعد شقائق النعمان عنّا نشتاق زيارة شقائق أرواحنا الساكنة فيها ولا نستطيع، صباح الخير للمغيّبين، صباح الخير للذين لا ننسى أسمائهم ولا أبنائهم ولا يطلع نهارٌ لا نتقصّى فيه أنبائهم.
صباح الخير لفستق الشهباء، ولياسمين الفيحاء، ولضمّة الحبّ في لهجة العديّة، ولنواعير حماة الروح الأجمل، صباح الخير للذين يدركون أنّ الأمر لله من قبل ومن بعد، وأنّنا في الداخل وفي الخارج نحيا الحياة بين الستر والألطاف لا نخاف، وأنّ الله لا ينسى، وأنّ من يؤمن به لا ينسى، أُنسينا راحة البال إن نسينا أو تناسينا.
صباح الخير يا أُنسنا، صباح الخير يا كُنهنا، صباح الخير يا مجدًا ويا نبضًا عذبًا معذّبًا لا يبرح الأفئدة، صباح الخير يا خافقًا استودعناه الرحمن بين حدود خارطتها هناك، صباح الخير يا خارطةً لا تفارق جدراننا رغم أنّنا صرنا منذ زمنٍ بعيد هنا.
صباح الخير يا دمشق، صباح الخير.