(1)
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
زبرجد العزيز حفظه الله ويسّر له الخير حيث اختار ورضّاه به..
رمضان هو المناسبة الأجلّ التي أحبّ أن أرسل فيها للكتّاب الذين تلفت انتباهي نصوصهم: كل عام وأنتم بخير.
لم يكن حساب تواصلك الاجتماعي موجوداً بداية الشهر، ولم يكن مناسباً فيما بعد المباركة متأخراً، جرت العادة في هذه البلاد أن يبارك النّاس لبعضهم بالعشر الأخير من الشهر الكريم بقولهم: مباركة عليكم العشر، ربّما هذا فألُ خيرٍ لك لأدعو لك يومين متتاليين أن يرزقك الله زيارتها لعمرةٍ أو لحج أو لكليهما معاً، الله كريم.
بحثت عن بريدٍ الكتروني لك لتتسم هذه المحادثة بصفةٍ رسميةٍ تماماً فلم أجد..
ربّما كان يُفترض أن أستأذن قبل الإرسال.. هكذا تعوّد النّاس أدباً في حال زيارة النّاس.. تطرق الباب.. إن لم يُفتح لك فارجع، لصاحب البيت سببه، والقرآن أدّبنا فأحسن التأديب وربّانا خير تربية: “وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا ۖ هُوَ أَزْكَىٰ لَكُمْ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ “..سورة النور.
لسببٍ ما لم أعرف كيف أستأذن هذه المرّة، ربّما لأنّ الكلمات لا ينطبق عليها ما ينطبق على غيرها من أحكام، كلماتنا أصوات أرواحنا وليس الكلّ يسمع الصوت نقياً كما عنيناه.
ربّما وصل الزبرجد للسطر الذي بدأ عقله فيه بطرح الأسئلة، لكنّ الحقيقة أنّها رسالةٌ لا تحتاجُ طرح أيّ ردٍّ بعدها أو أيّ تساؤلٍ أثناءها اطلاقاً، كلّ ما في الأمر أنّها تُرسل من قارئٍ معنّيٍ بالأدب المعاصر صدف أنّه يكتب بعض الشئ أيضاً ليس إلّا.
ربما يعيش النّاس حالة انفصامٍ تكاد تكون شبه تامّة فيما يخصّ التعامل مع هذه الشبكات، شبكات تُعنى بالتواصل الاجتماعي تقوم الدنيا فيها ولا تقعد إن حدث وتواصل الغرباء بها مع بعضهم مرّة.
هل تبدو غريباً بعد قراءة امتدّت لعامٍ تقريباً لك؟ لا.. لا أظن..
كنت أنادي الطفلين وأقرأ لهم بعض نصوصك ونستمتع بالسّرد اللطيف معاً، سجّلت بالصّوت بعضهم، في ملفٍ على الحاسوب جمعتهم واحتفظت بهم لأعود لقرائتهم بين حينٍ وآخر، ولعلّ هذا أفضل ما فعلته تجاههم.
من منّا لا يحبّ نصاً يحكي عن المدرسة، عن الذكريات، عن الشّغب، هذه النصوص لا تشيخ، نعيد مشاركتها بعد عام وعامين وأكثر فيقرأها القارئ وكأنّها كُتبت البارحة، النّص الذي ينبض بالحياة أفئدة القرّاء لا تخطئه.
زبرجد العزيز..
أعزّ تلاميذي على الاطلاق اسمه بشر، كتبت عنه عدّة مرات، كان لي من اسمه نصيب، في كلّ المرّات التي قرأت فيها نصّا لك كنت أرتعب من أن بشر سيغدو مع الأيام كاتباً أيضاً، بشر المشاغب الذي التقط مع معلّمة الظلّ عشرات صور السيلفي بلا حجاب سيفعل فعلتك التي فعلت ويكتب نصّاً طويلاً يوماً ما ويرفق به صورتنا معاً بعد أن قضيت عمري في هذه الشبكات لا أشارك الصور ثمّ يكتب بلغته الانجليزية: معلمتي رحمها الله!
هذا تماماً ما شعرتُ به حين شاهدت صورة مدير مدرستكم جعل الله له نوراً، الدنيا تدور بي من الأمس، كما تدور بكلّ أنثى بالكون أدركت للحظة أنّ تلك الصّور لم تُفلتر يوماً ولم يحسب لحظةً لنشرها حسبان..
إذا فعلها بشر! فأنا أوصيك أن توبّخه وأن تقول له أن التيتشر خاصّتك لا تسمح بذلك.. وبّخه ما استطعت.. مع أنّي على ثقةٍ بأنّه لن يردّ عليك..
هل مثلُ ذلك تفعل الكلمات!
أكثر.. أكثر بكثير..
تُصادف اليوم الذكرى السابعة لرحيل والدي، وكالعادة، كنت أكتب له فجراً، بعض فوضانا ترتّبها الكتابة بلا شكّ وتسكن إليها الروح، كان غريباً أنّي عند سطرٍ ما تبسّمت! كيف يتبسّم من يكتب ألماً! هل هذا منطق! لا منطق في عُرف الكتّاب بعد.
لِمَ ابتسمت!
تذكّرت ردّي عليك منذ أيّام، للحظةٍ هممتُ أن أتراجع عنه، فمن سيصدّق أن أحداً يكتب لأحدهم صار منذ زمنٍ بعيدٍ هناك، من سيتفهّم أن هذا الأحد يكتب لأكثر من أحدٍ هناك أيضاً، ربّما لن يصدّقك أحد.. إلا صديق قلمٍ يعي ما تقول..
إلى هذا السطر، أكتفي بالحديث عن الكتابة وأثرها ولا اكتفاء من ذلك، ومن هذا السطر يعرّف الانسان بشخصه لأخيه الانسان، فيلتقي البشر ويفترقون بين جناحي رسالة.
كيف يكون التعريف؟
أنا أيضاً لا أعرف.. المعلّمة والأمّ والكاتبة لا تعرف، ربّما القارئة تعرف، الذي أعرفه أنّ النّص الأوّل الذي قرأته لك قرأته ولديّ حالة وفاة، النّص الذي أشرت له في مدوّنتي يوماً، النّص الذي تمنّيت أن أرى بعده أين سأكون بعد ثلاثين عام! النّص الذي وعدت نفسي أنّ ثمّة لقاء سيكون بعد ثلاثين أيضاً! وسألت الرحمن حينها أن يبارك العمر ويتقبّل العمل إلى حينه وأن يكون هذا اللّقاء عند سدرة المنتهى..
هل مثل ذلك تفعل الكلمات!
تتسائل ثانيةً!
أم مثل ذلك تقرأ الأمهات!
بل مثل ذلك تقرأ الأخوات.. مثل ذلك..
أخوات؟
نعم.. أخوات..
قد تملك عشرة، ربّما أنا الحادية عشر، من يدري.
الذي أعرفه أنّي دعوت الله لك كثيراً من المرات بعد كلّ قراءة، سررت جداً حين قرأت عن سفرك الجديد وحين شاهدت التصوير، وأرجو أن يكون ما فهمته صحيح، ما بين غيّروا عتباتكم تُرزقون، وَ ارحل بنفسك عن أرضٍ تُضام بها، لنا في هجراتنا أجرٌ وخيرٌ كثير بإذن الله تعالى.
حمداً لله على السلامة، كن وأسرتك بخير دائماً، ربّما أحبّ أن أقول لك مثل ما قلت لأخي منذ أعوامٍ يوم هاجر: “لا تنسى تبعتلنا صور الولاد أوّل بأوّل”، ولعلّ هذا فألُ خيرٍ أيضاً.
فتح الله لك فتوح العارفين ورزقك من حيث لا تحتسب.
في أمان الرحمن.
***
(2)
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
الأستاذ العزيز.. جزيت خيراً..
رسالة البارحة لم تكن الأولى، كانت الخامسة أو السادسة، لم أفلح في ارسال سابقاتها على مرّ شهور ولا أعلم لماذا، ربما لأنّني كنت أضع نفسي مكان المتلقّي وأرى صعوبةً عليه في قراءة كلمات شخصٍ لا يعرفه على أرض الواقع ولن؛ ربما ساعدني شرف الزمان وصباحٌ في رمضان على الارسال أخيراً.
أشكرك لأنّك كنت عند حسن الظنّ، لأنّك بدأت الردّ بذكر: وهل يكبّ النّاس في النّار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم.
كان هذا مريحاً، فالذي يدرك ذلك يدرك أنّ الذي أرسل له يدركه أيضاً، الحمد لله.
ادع الله أن يبارك وقتك، ادرس جيداً، تذكّر كلّ صبحٍ أنّنا نحيا الحياة بين: “الله لطيفٌ بعباده” وبين: “ولسوف يعطيك ربّك فترضى” ولنا في: “أليس الله بكافٍ عبده” كلّ الطمأنينة.
كن بخير دوماً.
مع أطيب الدعاء، بالتوفيق.
***
(3)
بسم الله الرحمن الرحيم
لكلٍّ منّا عادتهُ تجاه ما يكتبه ويتردّد تجاهه؛ الرسائل التي لا تُرسل إلى أصحابها فترة كتابتها إمّا أن تحوّل بتعديلات بسيطة إلى نصٍّ مسموع، وإمّا أن تُحفظ في كتابٍ للخواطر ما زال تحت الطباعة لا أدري متى يُطلق سراحه من الحاسوب..
النشر الالكتروني والورقي قرار الكاتب في النهاية مهما أوهمك الناشرون أنه تأخّر.. نحن من نقرر أين ومتى وماذا سننشر.. ولماذا..
التردّد تجاه طرح فكرة جيد بعض الشيء، نعطي أنفسنا بسببه سعة من الوقت لنتيقّن أننا نعي أبعاد ما نفكّر به ونرغب بتنفيذه.
الكتاب الذي عنيت على الأغلب سيتم تجزيئه أو تصنيفه حسب المواضيع قبل اعتماده إن أذن الله لأنّه تجاوز الخمسمائة صفحة بالفعل على برنامج الوورد، أما ما سبقت كتابته أفضّل اعادة صياغة ما دار حوله هنا من جديد.
لماذا نكتب؟
ذَكَرتَ أربعاً من الأسباب التي يشترك بها كثير من النّاس.
من يُكرم الكاتب بهذا اللقب؟
القارئ، الكاتب يوتّره هذا اللّقب لأنّه يحمّله مسؤولية، بعد زمن يتقبّله شيئاً فشيئاً ويدخل دائرة التّعوّد.
من نحن؟
نحن الخليفة في الأرض الذي خُلق من صلصالٍ كالفخّار.
متى سنرحل؟
حين يؤدّي كلّ منّا دور الخليفة الذي اختاره لنفسه، في كلّ الأزمات التي نمرّ بها أثناء هذه الخلافة لطالما كانت السلوى في أنّه تعالى لا يكلّف نفساً إلا وسعها، تأمّل الكون حولك.. كلُّ تكليفٍ على وُسْع الخليفة الذي كُلِّف به، ويبدو أنّ وُسْعَنا عظيم وتكليفنا تشريف، والحمد لله على ما كان وما سيكون، قدّر الله وما شاء فعل.
=====
لم أفكّر سابقاً أن أنشر كتاب، لم يخطر على بالي أنّي قد أكتب رواية، لم أتخيّل أنّي سأرغب بأشياء كثيرة تدور جميعها حول الكتابة، هذا لم يكن سهلاً بوجود عمل ودراسة والتزام عائلي، كتابة نص من قلب الأسرة تكاد تشبه معجزة أحياناً.
منذ عام ونصف، بسبب كتابةٍ ما تفاجأت بالتواصل من بغداد، لندن، اسطنبول، هل نساعدك بالنشر الورقي الأوّل؟ ماذا عن افتتاح مدوّنة؟ الأمّ التي طبعت مرّات عديدة من المطبخ.. في نفس المطبخ يتواصل معها ناشران كي تنشر!
كان هذا مربكاً حقاً، أن يقول لك أحدهم أنّه قرأ لك سبعين نصاً أنت الذي لم يخطر على بالك عدُّ نصوصك يوماً، ستتمنّى للحظة أن تغلق صفحتك، ألّا يكون قد تخيلك تماماً كما أنت تخبّئ نفسك بين السطور.
نعم، شعرت برهبة، أنت تتواصل مع من يكبرك بثلاثين عام، يناقش نصاً كتبته، يسألك عن جزئية خرجت فيها عن النص، وعدت سريعاً ثانيةً لاكمال ما كنت تكتب، يقول لك أنّ الخروج عن النّص كان موفّقاً جداً، يسألك أن تُعرّف عن نفسك أكثر لغرض اقامة مشاريع كتابية مستقبلاً؛ وأنت لحظتها لا تستطيع أن تفكّر إلا بشيء واحد لتبدّد حدّة التوتّر: حين تنتهي المكالمة وأغلق السمّاعة ستكون كعكة الفانيلا جاهزة! الفانيلا تحلّ كثيراً من المشاكل، لا أريد أن أكتب نصاً أتواصل بعده مع أحد، لا أريد أن ينتظر أحدٌ منّي كتابة، لا أريد أن أحيا تحت المجهر، لا أريد أن أخاف.
تؤتى الأمهات شجاعةً لا تصدّقن بعدها من أين أوتينها في القدرة على الرّد، نحن هنا لا نتحدّث عن ناشرٍ في مقتبل العمر أو دار نشر جديدة أو اسم نشكّك لحظةً بوضوح مقصده، إنما نتحدّث عمّن سبقونا في هذا المجال سنين، الذين اعتادوا نقد النصوص وتذوّقها عن خبرة.
كان لكلّ واحد منهم ما بين عشرة كتب إلى خمسة عشر، لهم علاقاتهم، أعرف تماماً وقتها ما معنى أن يعرض عليك مثلهم: “نقدّم لك الكتاب”، ولا أعرف كيف ألهمني الله وقلت: لا أريد حالياً، ولم أندم حتى الساعة.
أدركت الأمّ أثناء تقطيع الكعكة أنّ الكلمة تصل لأبعد مما نتخيّله، هؤلاء كتّابٌ لم أعرفهم يوماً ولم ألقهم حتّى، السرّ وراء النّصوص التي لفتت انتباههم وحدي أعرفه، كنت أكتب الشعور لحظة ميلاده الأوّل دونما تأخير، ويبدو أنّ بعض مشاعرنا تُسكب على الورق سبائك دون أن نعي.
القدرة على قول “لا” في الحياة ليست سهلة، تحمّل عواقبها، التأكّد أنّنا لن نندم، أنّنا سنتذكر سبب “لا” الأولى دوماً ليس عادياً.
الحمد لله.. تجاوزت تلك الأيام، أثناء معرض الكتاب كنت أدرك كلّ زيارة وكل يوم وكل لقاء مع ناشرين جدد أنّ كلّ انسان في الحياة هو كاتب بشكلٍ مّا، ليس الجميع يكتبون حروفاً وكلمات.. البعض كتابته حرفة يدويّة، رسم، موسيقى، كلٌّ يكتب هوايته على طريقته الخاصّة.
في جميع خيالاتي عن الجنّة التي أعرف أن كل خيالات أهل الأرض لا تأتي مما فيها بشئ، كنت أتخيّل أنّ هناك مكتبة كبيرة، كبيرة جدا، مكتبة رائحة الورق فيها ملكة اللحظة، جمعت فيها كلّ الكتب التي كتبت على مرّ الأزمان، الكتب التي عرفنا أصحابها والتي لم نعرف عنهم ولم نسمع بهم يوماً، في تلك المكتبة، على رفٍ ما توجد كتبٌ لي، لا أعرف إن كنت قد أكملت طباعتها أو قمت بنشرها في الدنيا، الذي أعرفه أنّي بدأت بها، وذلك بعض خلافتي بالأرض بالتأكيد.. ليست خلافتي كعكة الفانيلا تلك.
في تلك المكتبة، تستعير الكتاب لا تُطالب بإرجاعه في وقت محدد، لا تضطر لقراءة كتاب الكتروني بعد اليوم، يوجد كثرٌ هناك، الجميع يقرأ دونما ازعاج، حتى الهمس لا نسمعه، لا هواتف محمولة ترنّ فجأة، ولا مواعيد للحضور والانصراف.
على ذلك الرّف، كتبٌ أحبّ أن يقرأها والدي، أحبّ أن أسمع قوله فيها، وعليه كتاب، كان يفترض أن يكون الكتاب الأوّل، أن ينشره لي ذلك النّاشر الذي كان له على قلمي فضلٌ والفضلُ لله العظيم، ذلك الذي يسمعُ الصبح صدى كلماته كلّ شروق: هل تعلمين ماذا قال الشيخ علي الطنطاوي في الكتابة؟
: “الكتابة موهبةٌ كالتيجان توضع على الرؤوس.. لو كانت تُباع.. لاشتريناها”.
ثمّ يكمل لصاحبة الفانيلا: هذا القلم ليس قلمك وحدك بعد اليوم! هذا القلم ليس مِلكاً للشام، ولا مِلكاً لحلب، هذا قلمٌ مسلمٌ عربيٌّ مُرتقب.
لا أعرف كيف يلمع الأشخاص في حياتنا كسنا نجماتٍ تضيع منّا بلمح البصر بين زحمة النجوم؛ قد تختفي النجمة ولكنّك لا تنسى ما حييت أنّك تبسّمت بسببها، أنّك نظرت إلى عينيك في المرآة بعد لقائها فتعرّفت إلى شخصٍ لم تعرفه في شخصك من قبل تلكم الكلمات التي سمعتها منه، شخصٌ جديدٌ سيرافقك حتى اليوم الأخير من حياتك القادمة، شخصٌ لا تعرف أين كنت تخبّئ مثله بين حنانيك كلّ العمر الذي مضى، ولماذا بمثل هذا التوقيت تحديداً ظَهَرَ من عرّفك به.. ولماذا كان لا بدّ أن تختفي من بعد سناها النجمات، لا أحد يدري، ربّما سندري هناك، في الجنّة إجاباتٌ لكلّ الأسئلة التي أعجزتنا هنا.
لم أتخيّل أن ألتقي في حياتي أحداً وكأنّه يوصيني وصيّة مودّع فيما يخصّ هذه المَلَكة.. ثمّ عن عالمنا يرحل، لم أتخيّل أن أسمع كلّ ما تعلّمه في سنوات خلال أيّام، لم أتخيّل أن توضع الكتابة على الطاولة وأُسأل بعيداً عن الخواطر في أيّ المواضيع أحبّ أن أكتب.
هذا الشخص أريد جداً أن ألتقيه في الجنّة، تحديداً في تلك المكتبة، عند ذلك الرّف، لأكتب الاهداء الذي له به وعدت.
تشبه علاقاتنا ببعض العابرين في أعمارنا علاقات بعض الأشخاص الذين لمحتهم طفولتنا في مشاهد من الرسوم المتحرّكة، يشبه حضور هذا العمّ في مسيرتي حضور معلّم الفرنسية في حياة سالي، المعلّم الذي كان يعرف تماماً من هي تلك المحبوسة بين العلّية والمطبخ، وإلى أيّ أصلٍ تعود وأيّ ملكٍ تملك، حتى وإن كانت الآن في مكانٍ لا يناسبها ولا تناسبه.
استطعت خلال الشهور الأخيرة أن أتعلّم كثيراً من الأشياء، النشر ليس حلماً ولا غايةً ولا سباق، والكتابة ليست هدفاً، الكتابة أيضاً تُعنى بالكيف لا بالكم، ولها زكاة.. زكاتها أن نكتب ما يستطيع لمس وجدان النّاس ويؤثّر بهم تأثيراً ايجابياً يدفعهم إلى الأفضل، وحول تلك الموهبة كانت تدور الرسائل التي لم ترسل..
كيف تُرسل لأحد لا تعرف عنه إلا بضع نصوص كتبها وصور التقطها.. أنك تبحث عن كاتب تكتب معه عملاً مشتركاً هادئاً اعتماده على أدب المراسلات، أو أدب الرسائل كما يقال، هذا ليس سهلاً لا على الطرف الأول ولا على الطرف الثاني خاصةً أن المعرفة افتراضية، لو تجاوزنا القلق تجاه الآخر وإلى أي حدّ يستطيع المرء أن يثق بشعوره تجاه المكتوب وأن الاختيار لهذا القلم كان صائباً فما الموضوع الذي يرغب صاحب الفكرة أن تدور حوله تلك الرسائل؟
لا أظنّ أنّ هناك شيئاً أحبّ أن أحكي عنه وأحاور وأسأل وأتذكّر وأتأمّل مثل تلك البلاد التي لم أعرفها من عمري إلا شهوراً معدودة، هذه الأمُّ وجعٌ لا أريد أن أموت قبل أن أكتب عنه، في كلّ المرّات التي تابعت فيها مصوّرين هناك كانت روحي تبكي كطفلٍ تائهٍ في زحمة السوق لا يدرك أنّ أمّه تبحث عنه على بعد أمتار وأنها ستجده بكى أم لا.
قبل دقائق من وصول استفسارك عما كُتب سابقاً أمس.. كنت قد انتهيت من مكالمة دولية تناقش الرسالة التي أرسلتُها، قلت أنّي سأبلّغ المرسل إليه الفكرة خلال عامٍ بإذن الله، ومن هنا إلى منتهى العام.. يخلق الله ما لا تعلمون..
لديّ مشكلة بالقراءة ربّما، أقرأ نصوص الغير كما لو أنّني من لها كتبت، أدرك دور المهجريين في صناعة الأدب، إن يُسر لي صناعة ذلك معهم فأنا أرغب كتابته مع ابن البلد، لم أقتنع أن أكتب ذلك مع مغتربٍ من جنسيةً أُخرى، لديّ انطباعٌ جيدٌ عن كتابةٍ تدور بين مغتربة المولد مع مغتربٍ في السنوات الأخيرة، نشأتان وغربتان لا تشبهان بعضهما يجري بينهما حوار. حوار قد تقرؤه طفلة من بلادنا بعد مائة عام بسبب حنينٍ ما لا تفهمه، لتدرك أيّ المشاعر كان يعيشها البشر في زماننا بعيداً عن الصور والمرئيات التي ستراها وتتسائل كيف مرّت على المهجّرين والمهاجرين تلك الأيّام.. وأيّ وُسعٍ آتاهموه الله ليواصلوا المسير.
أكتب ما أكتبه بهدوء لا يستعجلني أحد، متصالحة تماماً مع فكرة أنّنا نملك حقّ التراجع عن أفكارنا والتعديل عليها أو استبدالها بخيرٍ منها، متصالحة أكثر مع أنّ الأفكار التي يكتب لها القبول والخلود تحتاج أن تأخذ وقتها كاملاً.
الحمد لله الذي هدانا النجدين وسخّر الأسباب ورزقنا ما لا تسعه عقولنا فضلاً منه ورحمة.
في أمان الله.
***
24-4-2022