لن أتردّد هذه المرة، إن بدأت الطباعة لن أتوقف حتى أسكب ما يدور في عقلي سَكْبةً واحدةً على الورق، وحدك تعرف أنّ عقلي حبيس قفصي الصّدري وقلبي يحتلّ رأسي في مفارقة عجيبة بين البشر.
كيف حالك؟ أنت بخير.. أعلم.. طالما أنا بخير فلا بدّ أنّك بخير، أنا أحزن إن حزنت وأفرح إن فرحت وأمرض لا منطقياً معك إن مرضت سلّمك الله.
في رسالةٍ سابقةٍ كتبتها لك أبديت دهشتك وعبّرت أنّ تعبيري غزير، كتابتي مثل ذلك كلّ عامٍ في مثل هذا الفصل من السّنة، تنهمرُ روحي حبّاً وتأمّلاً مع غيث السماء شتاءً، وتزهر مع الربيع زهراً جديداً فريداً عاماً بعد عام، بيد أنّ زهر هذا العام بدا مختلفاً، حبٌّ مختلف، ربيعٌ دائمٌ لا فصول بعده تحلّ على القلب يا خفق القلب.
= تقصدين أنّ هذه رسالة؟ ظننتها كتاب؟
_ لا زلت بحيرة من أمري لنقل أنّها كتابٌ في رسالة، أو ربّما رسالة في كتاب!
= بدأتِ شقلبة العبارات كالعادة؟ الفلسفة هواية محببة أليس كذلك؟
_ أستمتع بها، أستمتع جداً، كلّ العبارات تحتمل عدّة معانٍ إن قمنا بقلبها، القلب والشقلبة مرتبطان بهذا الفؤاد المتقلّب ساعةً بعد ساعة.. ألا تتّفق؟
= هل أجرؤ على ألا أتّفق؟ تهجريني..
_ أهجر المجرّة وأهاجر إليك ولا أهجرك لحظة.. تسحب منّي العبارات التي تحبّ بدهاءٍ كالعادة.. وأحبّ ذلك.. أحبّه كثيراً مثلما أحبّك زبرجد..
= أوه.. استغرقتِ شهوراً طوالاً لتُدلي بتصريحك العظيم هذا، أكاد لا أصدّق عينيّ.
_ مثل هذه الشجاعة في الاعتراف بالحبّ لمن نحبّ صنعت صناعتك لهذه الكاتبة على عينك رسالةً بعد رسالة.
= هل أنت على ما يرام الآن؟
_ لست متأكدة من بعض المشاعر، لكنّ أغلبها استقرّ ونضج مع تأمّل سرّ الحياة.
= مازلت تتوهّمين أنّ للحياة سراً!
_ بل على يقينٍ بأنّ لديها مناجم أسرار.
= عمّ ستكتبين اللّيلة؟
_ أريد أن أسرّك أسرار عام البِشْرِ في العمر.
= هل لأيّامنا وشهورنا وأعوامنا أسماءٌ مثل ذلك؟
_ أسماءٌ وكُنىً أيضاً.
= بسم الله نبدأ درس الثرثرة إذاً..
_ وما الحياة إلا ثرثرةٌ عميقةٌ عزيزة الفهم عزيزي.
= أنا قلق..
_ أعلم..
= كيف تعلمين! ماذا تعلمين!
_ أعلم أنّك تخشى أنّك تورّطت بمثل هذا المكتوب، وبأنّها ستكون أطول رسالة ترسل إليك في حياتك، الرسالة التي قرأتها بنَفسٍ واحد كما كتبتها كذلك إليك أيضاً، الرسالة التي ستتأمّل وجه البدر بعدها منعكساً على مرآة شاشة حاسوبك بعد اطفاءه تمام ختامها عند أذان الفجر مُسائلاً نفسك: كم لبثت؟
سأجيبك من الآن، ستكون قد لبثت حبّاً أو بعض حبّ، في زمانٍ ما في مكانٍ ما كتبت بلسمٌ ما رسالةً من رحم مدرسة الحياة تسرّ فيها حكاياتها إلى الزبرجد، هل تصل هذه الكلمات يوماً إليه؟ لا أدري ولا يدري، عسى ولعل.
..
أحياناً لا نستطيع ترتيب الأفكار، ولا نرغب بالإشارة إلى الأشخاص، لأنّ خلاصة المكتوب ما تعلّمناه من مشاعرنا التي مرّت على مطبّات الحياة واختارت عند منعطفاتها واستطاعت بقدرة قادرٍ أن تتجاوز أوهامها وخذلانها وصولاً إلى أحلامها وجعاً بعد وجع.
ما موعد ميلاد وعينا؟
نختلف عن بعضنا البعض في ذلك، قد تسبقني بالنضج في ناحيةٍ ما بسنوات، وأتخطّاك بآخر بعشراتٍ منها، الفكرة ليست أنّنا في سباق، ليتنا كذلك، الفكرة ينقضي العمر في تعلّمها وفهم مغزاها.
فكرة أنّ الحديث السائد عادةً يكون عن الفصول الأربعة، مع أنّها في الحقيقة ثمانية!
نعم.. فصولنا ثمانية، لأربعة منهم ثمانية أسماء كلّ منّا يسمّيها بما يلامس وجدانه ويشبه أحاسيسه فيها، فلسفة الفصول الأربعة أنها ربيعٌ يعاقبه صيفٌ فخريفٌ يعقبه شتاء، الثمانية أربعةٌ زيدت على الأربعة لأنّهم ما بين وبين.. بين البَيْنَيْن!
الفترة ما بين الربيع والصيف، بين الصيف والخريف، بين الخريف والشتاء، وبين الشتاء والربيع ثانيةً، كيفية مرور فصول الكون على العمر والروح دواليك؛ قد نفضّل تسمية الفصل القصير السريع المحيّر الطقس الفاصل بين فصلي الخريف والشتاء ب: ما بعد الخريف.. وقد نرتاح لتسميته: ما قبل الشتاء، تلك أيّام تحتار فيها خزائن ثيابنا من اختيارنا اليومي منها، فلا نحن بردنا لتثقل طبقات الصوف على أجسادنا ولا نحن وثقنا ببقايا الدفء لنثق بالأكمام القصيرة والأقمشة الرقيقة.
تمرّ بأعمارنا جميعاً فصولٌ على عجلٍ مروراً ليس بالهادئ بين محطّات الحياة تلقي على أكتافنا وظهورنا حكماً ودروس وتمضي سريعاً قبل أن نتأكّد من أنّنا استوعبنا كلّ محاور الدرس واستخرجنا منه المستفاد من المطروح.
العجيب أنّك لست مخيّراً في تلك الفصول، بشكلٍ ما أنت غنيمةُ مفاجأةٍ تتوقّع منك حُسن التّصرف وسرعة البديهة ومسؤوليّة اختيار القرار.
لطالما تساءلت: لماذا نصف أعمارنا بأنّنا عشنا عشرين أو ثلاثين ربيعاً؟ لماذا لا نمتلك الشجاعة لوصفها بأنّها كانت ثلاثين خريفاً أيضاً؟ لماذا لا نربط العمر باسم الفصل الذي أشرق فيه بنا الكون؟ سيبدو ذلك ممتعاً أن نصنّف النّاس حسب فصل القدوم، فلان شتائيّ وفلانة خريفيّة، فلانة ربيعية القلب، فلان صيفيّ العلاقات، كنّا سنكون مادة دسمة للمحلّلين النفسيّين إن تجرّؤوا على ربط مثل هذا الربط غير المنطقي بين فصول الحياة وفصول المشاعر عند البشر، جميعنا نمرّ بالفصول الثمانية بلا استثناء، نحن من نقرّر أيّ فصلٍ هو سمة حياتنا الذي سعينا لوسمها به، ذاك وسمٌ ليس باليسير ويحتاجُ متابعةً ومداراةً ودراية.
الحمد لله عدد ما نبض القلب وسينبض، الحمد لله عدد الفصول كلّ الفصول، وعدد الرسائل كلّ الرسائل، حمداً تسكن به النّفوس وتطيب به الحياة، الحمد لله.