مهاجرٌ إذا مات وبُعث ثمّ مات وبُعث ثمّ مات وبُعث لما تمنّى أن يُولد من مكانٍ غير تلك البقعة الطيبة المباركة من الكون الفسيح، ولا أن ينتمي لغير هذه الأمّ التي له في حضنها عشرات الذكريات على تنوّعها.
من منّا يحبّ أن ينطق لهجةً غير لهجته؟ كلٌّ يظنّ أن خاصّته هي التي أسرت الألباب وذابت الشعوب في لطفها وغرامها؟ في وطنٍ مّا مازلت أذكره.. لكل مدينةٍ ومحافظةٍ لهجتها المستقلة! من يصدق..
اصطفانا لنأخذ الكتاب بقوّة، عباده الأقوياء بيقينهم وإيمانهم إليه أحبّ، لا يريدك أن تحيا كلّاً متواكلاً يتمنّى عليه الأماني ويلطم كالنائحات صبح مساء دون محاولات عملٍ جدّيًّ حثيثٍ أياً كان؛ اختارنا لتقوم قيامة الانسان ولتجتمع أرواح الشعوب المسلمة على روحٍ واحدة ابتداءً من اللحظة التي قال فيها للبلاء: “كن” فكان، فحلّ واستحلّ وأطال المكوث بيننا واستوطن حتى اعتدناه وصار جزءاً لا يتجزّأ من حياتنا وأصبح لصبرنا عليه حلاوةٌ أيضاً، انتهاءً إلى الأجر العظيم الذي يُوفّاه الصابرون بغير حساب.
ألا نفرح بالبلاء وهو الذي إذا أحبّ عبداً ابتلاه؟ هل يحبّنا بديع السماوات والأرض؟ كم نرجو.. كم نتمنّى..
نمتنّ لاختياره برضاً مطلق ونؤمن بأنّ لنا فيه خيرة، يا مرحباً بالبلاء وسهلاً له ما دام يخبّئ لنا في جعبته محبةً من العدل وعنايةً فائقةً منه وأرزاقاً خفيّةً تُساق إلينا بلا حولٍ منّا ولا قوة على قَدَرٍ منه لطيف.
جميعنا مُبتلى، معظمنا ابتلي بالفقد كاملاً أو جزئياً، دائماً أو مؤقتاً، بالغربة اراديةً أو قهريّة، بالمال وجوده أو عدمه.. وفرته أو ندرته، بالصحة تمامها ونقصانها، أو بالأرحام.. صلتها أو قطعها وهجرانها، ابتلينا بالضعف والقوة والقوامة والكرامة والتربية، نربّي أنفسنا ونحن نربّي أولادنا على طريقتنا الخاصة فتربّينا وإياهم الحياة على طريقتها العامّة.
تنبض قلوبنا بحبّه جلّ في علاه، محبّته مضخّة كل حبٍّ في الحياة، تجعلنا نفكّر في أطفال الملاجئ ولا ننساهم، والمغيّبين قهراً وظلماً وعدواناً في غياهب السجون، والقوارير اللاتي تحمل على كتفيها بجسارةٍ هموم تنشئة الأيتام بلا سندٍ مثل حنان الحنّان ورحمته.
نحمده على نعمة الاسلام، على نعمة صلة الأرحام، وعلى نعمة الشوق إلى الجنة، والحنين لجلسة ودٍّ مع الصادق الأمين عليه أفضل الصلاة وأتمّ التسليم نحكي له فيها ما جرى في دنيانا وما ألمّ بنا من حروبٍ وآلمنا من خطوبٍ ونغّص علينا فيها سلامنا بالعيوب، لندرك ادراكاً واضحاً جلياً أخيراً ألاّ سلام لنا قبل أن نصل إلى ذلك اليوم الموعود وإلى ذلك المقعد عند المليك المقتدر.
في زحمة التّوافه التي تتمايل على الساحة بلا حياءٍ ولا أدنى خجل نحمده على نعمة يُسر رؤية آياته في أيّ زمانٍ ومن أيّ مكان بالكون، نرى عيون أطفالنا وملامحهم ومرسم بسماتهم المرتجفة من البرد وهمومهم الحالمة بالسعد وأوجاعهم التي تتمنى أن نصل بهم إلى المجد فنغمرهم بفيض الدعاء ونغطّيهم بدفء الإيمان المطلق أنّ الواسع لن يضيعنا ولن يضيعهم وأن العاقبة حسنى وزيادة لكلّ مسلمٍ تحمّل ما تحمّل وهو على يقين بأنّ خالق الأكوان يعلم ما لا نعلم وأنّه وحده علاّم الغيوب..
قد نحمل هويّةً لا يستطيع أحدٌ في العالم أن يغضّ النظر عن بؤس حاملها في العجاف الأخيرة ولا يختلف على ذلك اثنان، لعلّه يمتحننا ويريد منّا أن نُظهر الخير الذي فينا ونحن أهلٌ لذلك بإذنه، من غربتنا وكربتنا لا نملّ ولن نملّ، سندعوه دوماً أن نكون عند حسن ظنّه أبداً تبارك وتعالى، تجمعنا الهمّة وبها نهزم الهموم، والملتقى جنّةٌ لا خوف على المؤمنين فيها ولا هم يحزنون.