لا أعرف لماذا هرعت إلى هنا على عجل، لديّ آلاف الكلمات لا بدّ أن أكتبها لك قبل أن ترتدي قبّعتك السريّة السحريّة وتعاود الإختفاء،
لا أملك سوى دقائق معدودة، ربّما تكفيك، لكنها بأي حالٍ من الأحوال لن تكفيني.
= اصدقيني القول: هل اشتقتِ لي؟
_ لا تقاطعني، أخبرتك أنّي لا أملك وقتي بل يملكني.
= هل افتقدتني؟
_ …
أريد أن أقول أنّي أتسابق مع الحياة منذ سنين، أسبقها مرّة فتسبقني مرّات، أريد أن أصل إلى مكان مّا بنته مخيّلتي، ولا شك بأنّ ذلك المكان ينتظرني على أحرّ من الجمر كما أفعل.
هذه الساحات والمساحات ليست للكلام العشوائيّ الفارغ غير المحسوب الذي لا نريد أن يقرأه مجرّد تائهٍ شريدٍ ضائعٍ طريدٍ لا يعبأ بمثله أحدٌ مع الأسف بالتأكيد، فالأكواخ الوحيدة البعيدة الخشبيّة الباردة الهادئة الضيّقةُ الشيّقةُ لم تَبَنْ ليلةً ولم تُبْنَ يوماً لمجرّد الهروب ما قبل الأخير من الكثرة الخانقة الحارقة من المدن الصفراء إلى الغابات شبه الخضراء، وشوشات آخر الليل لم تكتب عبثاً، لم تكتب إلا له وله فقط دوناً عن العالمين، منذ التصق الحرفان التصاقاً حميميّاً برابطٍ وثيقٍ لم يقدر على فكّه بعد ذلك البوح الصريح الجريح أحد؛ لست التي لا تعرف ماذا تقول ولمن تقول ومتى تقول وأين تقول.
هل تعرف أين تكمن المشكلة يا صديق؟
المشكلة في كلمة صديق!
المشكلة أنّ الجميع يبحث عن حبيب.
في حين أنّ الحبيب لطالما كان يحلم بصديق واحدٍ عاديٍّ حقيقيٍ لا أكثر، ولا أكثر!
لا يبدو الصديق في العمر شخصاً عابراً، إنّنا لا نعبرهم حتّى وإن متنا، لا يعبروننا حتّى وإن ماتوا.
= أنا صديقك إذاً؟
_ أكثر.. أكثر بكثير.
= تذكرين الموت مجدّداً بين سطورك؟
_ ومن قال لك بأنّي حيّة أُرزق!
= جلدك الأزرق.
_ وجهة نظرٍ لا بأس بها؛ أزرق! أحمق..
= كفى رقصاً على أوتار الكلمات.
_ وكفى قرصاً لأسرار القلوب..
= لم أفعل إلا بقلبٍ واحد.
_ لم يكن قلباً غابراً فحسب.
= أيّ قلبٍ كان؟
_ كان قلب البكماء، أخبرتك سابقاً، أنت بالفعل توأمي، متى صرت مثلي لا مبالياً بعض الشيء سريع النسيان مُريع الهذيان؟!
= هل تحبينني؟
_ أعد صياغة السؤال.
= كم تحبينني؟
_ من قال بأنّ هذا الشعور حبّ؟
= ما هو إذاً؟
_ حين تصبح أبكماً ستفهم حقيقته.
= هل سأصبح؟
_ ربما.. وربّما أنت منذ حزنٍ كذلك.
= متى صرتِ مثل ذلك؟
_ ذات عشقٍ كسر النطق والروح والذاكرة.
= هل نستطيع أن نعشق ثانية؟
_ لا أعرف، لم أجرب بعد.
= ألا تريدين؟
_ لا أعرف أيضاً.
= تكذبين!
_ كان من اللطف أن تحسن الظنّ وتقول: تخافين.
= ممّ؟
_ أخشى الرحيل، المفاجيء منه تحديداً، لا أطيقه.
= كيف مات؟
_ لا أرغب بالحديث عن ذلك.
= كلّنا سنموت في النهاية..
_ ليس الجميع يموتون..
= كيف!
_ أتحسبُ أنّ الموتَ قلبٌ سكتت نبضاته ورئةٌ ما عادت تتنفّس؟
= وما الموت غير ذلك؟
_ الموت أن تحيا تسمع ألحاناً عن شيءٍ اسمه وطن، ترى القصائد تُنظم في غرامه ولا تستطيع كتابة بيتٍ واحدٍ، الموت أن تحبّ أحداً مّا هناك، أن تعيش ويعيش فلا تلتقيان ما تمنّيتما ورجوتما، ليس لشيءٍ أكثر من أنّ خطوط الطول لا تلتقي بخطوط العرض إلا في نقاطٍ محدّدة لا مجال للعبث بإحداثياتها.
= وماذا أيضاً؟
_ الموت غفلة الانسان حين يظنّ أنّه ينتظر القدر لا أنّ القدر هو من ينتظره.
= وأيضاً؟
_ الموت ألا تستطيع أن تخبر أحداً أنّك تشعر تجاهه بشيءٍ مّا، شيءٌ عطرٌ جداً كنسمة الفجر الأولى تستنشقه بنَفسٍ طويلٍ جداً وتريد أن تحبسه بين حنانيك إلى الأبد.
= أريد أن أُحبس مثل ذلك..
_ أنت محبوسٌ بالفعلِ منذ زمن، ألا تدرك.
= بتهمة ماذا؟
_ كم مرّة يجب عليّ اخبارك أنّي بكماء؟
= كيف حُبسنا؟
_ يوم عَشقنا، وعُشقنا.
= مُتعبٌ جداً أنا وكأنّي أحتاج من العمر استراحة، أشعر بأنّي أركض بلا جدوى، أريد أن نذهب إلى بستان، أن أتأكّد أنّ أحداً لم يتبعنا، أن أريح بقايا رأسي على كتف، أن أبكي، أن أبكي كثيراً، أن أبكي حتى تثمر كلّ الأشجار، أن أخبرك عن الفتاة التي كانت تحبني بثرثرة جنونٍ حين كنت عاقلاً ويوم عقلتْ عن حبّي جُننتُ وكُلِمْت! أن أقول أنّي لا أقدر على التجاوز، لا أستطيع النسيان، لم يعد بي جلدٌ على الكتمان.
_ ليتني أملكُ لك واحداً، للأسف.. كان..
= ماذا تقصدين؟
_ هذا الشيء الذي سمّيته لي منذ لحظاتٍ على ما أذكرُ بالكتف.
= لم أفهم؟
_ عينٌ كسماءٍ صافيةٍ.. كتفٌ مرساةٌ لسفينة
= مَن؟ أنا؟
_ …
= بم تفكّرين؟
_ ربّما تلك الدموع هي ثمن علاقتنا السرابيّة وسبب تعارفنا الوجدانيّ اللّطيف الهادئ السليم الخفيف الخفيّ هذا.
= كيف؟
_ حين أنطق ستفهم كلّ ما بين السطور وبعد علامات التعجّب واشارات الاستفهام جميعه بلا استثناء.
= متى؟
_ قريباً.. قريباً جداً.. يا روح البكماء.