عاد الشتاء..
وما عاد الحنون.
عاد ولم يعد، سيعود سنيناً وسنين، لن يعود، ولن نعود.
عاد وأخبرها مجدّداً على ألمٍ ألّا عودة للرّاحلين مهما توالت الأعوام.
عاد فلم يجد شيئاً على حاله كما تركه.
لم يجد فوضاهُ في أماكنها المبعثرة..
عاد فوجد أنّ رحيله كواها وأرّقها وأرهقها وأخذَ من وَجدها كلّ مأخذ.
لملمت شتات الذكريات في قلبٍ سّليم..
خبّأت في ذلك الدّرج العتيق النّظارة.. الدّفتر والقلم.. إبَرَ الأنسولين وعُلَبَ الأسبرين ومواعيد المستشفيات ومفكّرة عناوين أصدقاء طفولته في تلك الحارة..
صابونة الغار ودُهنَ العودِ وزجاجة الكولونيا وليمونةً مجفّفةً منذ سبعة عشر عامٍ وورقة شجرةِ الكينا التي زرعها قبل الهجرة وقبّعةً عاجيّة اللّون وكوفيّةً رماديّةً وجواز السفر ورخصة قيادة السيّارة..
شهادة الميلاد.. والجامعة.. والوفاة.. رسائل الحبّ وعقود العمر ومفتاح بقايا بيتٍ لم يعد بيتاً في بقيّة ذاكرةٍ سنيّةٍ منسيّةٍ كانت تسمّى ذات عمرٍ بهيجٍ “وطناً” كما تذكر.
عاد الشتاء..
فوجد حسنها قد ازداد حسناً كما يليقُ بالحُسنِ والحزن أن يتألّقا بخفّةٍ وهدوء.
اقترب منها..
احتضنها..
كما يفعلُ مع كلّ مُفتقدٍ ومُشتاق..
وحين ارتجفت من البرد القارص أخيراً اطمأنّ أنّ قلبها بالأمل ما زال يخفق، فحاول تدفئته بأعذْبِ الوعود والهمسات.
أخبرها أنّ لها عنده في كلّ عامٍ ابتداءً من هذا العام أمنية..
فأخبرته أنّها لا تريد أكثر من أن تحمّله عاماً بعد عامٍ رسالة..
رسالةٌ واحدةٌ فقط.. ستؤدّي الغرض.. كانت متأكّدة.. أو ربّما.
سألها عن سرّ الجمال يتوهّج رغم الانطفاء، رغم الانكسار، رغم الحنين ورغم الألم..
أجابت أن الشوق من صَنَعْ، أنّ المشتاقين إلى أحبّتهم على الدّوم يبدون كذلك، يبدون أحلى، وأبهى، وألمع.
سألها عن الرسالة الأولى، عن شتاءٍ حزينٍ سابعٍ يمرُّ عليها دون أن يمرَّ عليها، دون أن يتحدّاها أنّه سيتمكّن من أن يُغرمها بالقهوة بالقوّة، دون أن يتقاسما قطعة شوكولا النعناع الأخيرة، دون أن يستأذنها بلطفٍ: هلّا منحتني من وقتك اليوم دقيقتين أيضاً؟ دون أن يقول: اشتقتُ لكذا وأريد كذا، دون أن تثرثر ويثرثر وتثرثر معهما نجوم المجرّة حتى يطلع عليهما الصباح ويقول بحزمٍ: انتهت ورديّتكما.. ناما رجاءً.. فقد حان موعد ثرثرة العصافير، دون أن يغار حضور المطر من ذلك السلام والخير الذي كثيراً ما كان يشبه الحبّ ولكنّ الحبّ لم يستطع بأيّ حالٍ من الأحوال أن يشبهه لسببٍ مّا.
ارتدت معطفه العسليّ القديم واسع الحجم طويل الأكمام وطوّقت عنقها بذات الكوفيّة ودفّأت رأسها بقبّعته العتيقة التّركيّة، وتمتمت لهم أنّها أدركت منذ الليلة الأولى من نومته هناك ألا عودة ما حيينا، وأنّ عليها أن تستعدّ للذهاب إليه كلّ لحظةٍ في أيّ لحظة، وأنّ لقاءً دافئاً ينتظرنا حتماً حيث ستكون الحياة ربيع طيرٍ ونور خيرٍ إلى الأبد، إلى أبد الأبد.
لم تبك؛ بل بكى الشتاء، وانهمرت بالغيث مدرارة الدمع السّماء.