يصرّ أحمد على أن تكون الحياة بيننا لعبة شطرنج، يبهرني بأسئلته وكأنّ كلّ سؤالٍ مباغتٍ منها يسخر منّي على شغبٍ واستحياءٍ: “كِشْ مَلِكْ”، يروق له في الآونة الأخيرة سؤالي كلّما سنحت له الفرصة: “ماما طلعت نتيجة امتحاناتك ولاّ لسّا؟”
في كلّ مرّةٍ أستخدم نفس الأسلوب الذي يستخدمه معي مُذْ عرف المراوغة فأُزحلق له الإجابة بطريقة مّا بما أنّنا أسرةٌ مولعةٌ بالزّحلقة؛ غالباً ما أقول بحزم: “خلص اليوم، يا الله ع النّوم”.
كان قراراً مدروساً صائباً طيّباً، علمٌ وددت تعلّمه سابقاً وها أنا ذا أحاول فعل ذلك ما استطعت وما توفيقي إلا بالله، لِقَدَرٍ مّا كُتب لي تعلّم غيره آنذاك والعمل به عمراً جميل، غير أنّ بعض الأحلام تثبت لنا بعد حينٍ أنّها لا تبرح القلوب وتطوف حولها حتّى يحين وقتها، أحلامنا كتبٌ موقوتةٌ أيضاً، محظوظٌ نادرٌ من يدرك ذلك في مقتبل العمر ويستريح؛ في الأعوام الأخيرة شعرتُ أنّنا لا نستوفي حيواتنا إلا إن فعلنا كلّ ما تمنّيناه فيها، إلا إن تعلّمنا ما استطعنا، إلا إن جربنا وحاولنا وأتقنّا حدّ الاحتراف ما نهوى وأجدنا كلّ ما وجدنا له وجُلّ ما نحبّ ونريد.
أحببت أن كثيراتٍ سبقنني وتألّقن بذلك الألق الفريد، تدرسن وتعملن وتربّين وتعتنين ببيوتهنّ وتُقبلن على الحياة لتقبل عليهنّ بكلّ ما أوتيت من رزقٍ وخيرٍ وفير؛ لم يكن يسيراً، أحتاج تركيزاً اضافيّاً مضاعفاً وبعض تنازلاتٍ وجميل صبرٍ وترتيب وقتٍ دقيق، لكنّه لم يكن مستحيل، ممكن جداً لمن لزم دعاء الفتّاح أن يفتح له فتوح العارفين؛ فالحمد لله ملء السماوات وملء الأرض وما بينهما وملء ما شاء من شيءٍ بعد على نعمة العمل لما بعد الموت، على نعمة استثمار الفراغ بالصحة والعافية بما يرضي الله، وتلك نعمةٌ جليلةٌ تغبطها حُمْرُ النّعم.
ما زالت الرؤية غير واضحة، ربّما ما زال الحلم بعيد، دربه شاقٌّ وعرٌ جدّ طويل، أكتب منذ فترة لا بأس بها روايتي الأولى، تسترق بعض سطورها الغفوات بين صفحات مدوّنتي أحياناً وتهرول مشتاقةً إلى قارئٍ نبيل تريد أن تحكي له أسماء شخصيّاتها وبعض يوميّاتهم وأخبارهم.
لأنّي معلّمة.. أحبّ أن أكتب لاحقاً وأصوّر وأسجّل الطريقة التي أعلّم بها غير الناطقين باللغة العربية للتمييز بين أشكال الحروف وأصواتها، أن يرى طفلٌ مّا في هذا العالم أنّ لغتنا أجمل من كلّ ما وصفوها به عبر الأزمان، أجمل بكثير.
لديّ امتنانٌ عطرٌ خاصٌّ محفوفٌ بأكوام دعاء تجاه كلّ من علّمني ووجّهني ونصحني وشجّعني بلطفٍ وتواضعٍ غير مسبوقٍ على الطريق فثبّتني عند الأزمات وتابعني حينما فاجأتني المطبّات والمنعطفات، ومن فينا تمضي أيّامه على استقامةٍ جامدةٍ دونما عثرةٍ عند مطبٍّ أو حيرةٍ أمام منعطف؟ لكم من قلبي تحيّةٌ وسلام ونسأل الله رُشداً وعوناً وسداداً وفلاحاً وتوفيقاً منه ورحمةً ونور.
الفكرة ليست أنّي لا أريد أن يعلم الجميل بمَ نجحت وأين أخفقت، يعرف تماماً أنّ ماما تفوّقت الفصول الماضية واحتفلنا بهذا الإنجاز معاً كما يليق بطلب العلم أن يُحتفل به وكما يجدر بالاحتفالات أن تكون؛ كانت الفكرة أنّي كنت متوترةً بعض الشيء من معرفة نتائج الموادّ الستّ ليس إلاّ، استجمعت شجاعتي أخيراً وتفاجأت أن أكثر مادة ظننتُ أنّي لم أفلح بها كانت أعلاهنّ درجة! والعكس حصل أيضاً! لا أدري كيف، المحاضر المرّيخيّ يدري بلا شكّ.
كثيراً ما يحدثُ معنا هذا في الحياة، نظنّ أنّنا تمكّنّا من معرفةٍ مّا تماماً بها، ثمّ يتبين لنا بيانٌ مغايرٌ آخر.
الفكرة ألاّ نيأس، ألاّ نُحبط، ألاّ نخاف، وألاّ نملّ كي نستمرّ بثباتٍ إلى أن يحالفنا الفلاح، وكي نصل إلى أهدافنا بقوّةٍ وعزمٍ وإيمان.
أن نقدّر إمكانياتنا وألا نُهدر طاقاتنا فيما لا يستحقّ، أن ننمّي مهاراتنا، ونستمتع بهواياتنا، أن نلزم حدودنا ونعالج عيوبنا، أن نتعلّم كيف على السّعيد أن يُعيد النّظر في عافية أيامه وأن يحياها مُشرقةً بجدٍ واجتهادٍ من جديد.
“سكّان جنّةٍ” بإذن المنّان مع وقفِ التّنفيذِ يستأجرون الدّنيا أيّاماً معدودةً وبضع سنين؛ أخبرني بربّك.. برأيك.. إن كان يُتوقّع منّا أن نتركَ بعدنا بصمة، فكيف يُفترض بنا الآن أن نعيش؟