صباح الشوق زبرجدي، كيف أصبحت اليوم؟ أرجو أنّك بصحّة جسدية ونفسيّة جيّدة، وأرجو أنّك مثلي، تراها دار عبور إلى دار الخلود، وأنّك تستمتع بهذه الهديّة التي كرّمنا الله بها يومَ أن قال كن فيكون، فنبض القلب وتنفّست الرئتان، وقيل للعباد: اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ۖ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ.
أنا بخير، أصبحت وأصبح الملك لله، وأسأل الله أنّك كذلك.
كيف يتنفّس «الصّبح» يا زبرجد؟
هل يبكي “«المطر»؟
وهل تشتاق “«الأشواق»؟
ثمّ هل يلتقي بمن يحبّ «الفراق»؟
لقد كان صباحاً ذا فألٍ كرقم الرسالة!
أعيبُ على من يستمرّ بارتداء ملابس النّوم بعد تفتّح زهرة عينيه، حتّى وإن كان في يوم إجازة، ثياب النّوم للنوم وهندام القوم للقوم، لا أقصد بالقوم أنّك ستلتقي أناساً وضيوفاً أو تخرج إلى الشارع، أقصد قومك الذين تعيش بينهم، طيوراً وأزهاراً بل وحتى جمادات، تفرح بك يوماً بعد يوم، يتهامسون كلّ شروق: استيقظ ملك المنزل، قام عن سريره العميد، فرّش أسنانه، انتعش وجهه وُضوءاً وَضَوْءً يغسله فيغسل معه أحزاناً وهموم، ويقول يا معين أعين.
حتّى الجمادات قوم، تحسّ بما نحسّ، ألم تقرأ يوماً عن جذع النّخلة بكى حين حنّ؟
المهم، لطفاً، لا تتابع قراءة كلماتي مرتدياً البيجامة، اقرأها مرتدياً قميصاً سماويّاً أنيق.
وتشترطين أيضاً؟! واعجبي كيف تتسارع جرأتك بالنّموّ رسالةً بعد رسالة.
نعم أشترط، ولديّ مائة شرط وشرط، لكلّ عشرة رسائل شرط، ولا بدّ لها من أن تنفّذ سمعاً وطاعةً بعد كلّ هذا الغياب يشقّ الصّبر شقاً.
خزانة ثيابك، إن انتهى بيَ الحالُ مسؤولةً عنها يوماً، سنملأها سويةً بالقمصان السّماويّة، بكلّ تدرّجات السّماوي، لا تحلم أن أسمح بقمصانٍ مقلّمةٍ أو مشجّرةٍ أو منقّطةٍ ولا بمربّعات الكاروهات توتّر الأعصاب حتّى، لا أحبّ لا أحب، السّادة للسادة، والسادة يليق بك.
ربّما فضلاً مني وتكرّما ننظرُ في أمر بعض الألوان الفاتحة رأفةً بحالك، وبعيني بنات جيرانك، فلعيونهنّ حقٌ فيك كما لي فيك ألف حقّ وحقّ.
تثرثرين كثيراً هذا الصباح، وتدسّين العسل بالعسل، ما بالُ العسل؟
ألم أقل لك أنّ كثيراً من العادات قد تتغيّر بتغيّر عادة واحدة؟
هذا ما حصل حين فتحتُ شاشة المحمول مع أوّل دقيقة أفتح فيها عينيّ، يبدو أنّ الكتابة بالبيجامة لا تُحمد عقباها، أن تستيقظ متّجهاً نحو لوحة المفاتيح بدلاً من إعداد كوب الشاي ففي ذلك إنّ، يبدو أنّ أحدهم أقضّ مضجعك، وعكّر صفو أحلامك، وقمت صباحاً تريد أن تنتقم لذاتك ممن لا تعرف له طريقاً، بينما يعرف ليقظتك ومنامك ألف عنوان، ليس عدلاً ما يحدث بيننا وربّ الكون يا زبرجد.
بالمناسبة، وعلى ذكر الشّاي، عموم النّاس تملك في عروقها كريات دمٍ حمراءَ وبيضاء، أماّ أنا فدمي شايٌ مرٌ أحمرٌ معطّر، أحلمُ في الجنّة بمزرعةٍ من شاي، بشايٍ على مدّ البصر، شايٌ لا ينتهي ولا أنتهي، أحبّه على جميع أحواله ونكهاته، بارداً وساخناً ومثلّج، المهم بلا سكّر، السكّر يفقده هيبته، وأنا لا أحبّ شيئاً بلا هيبة، لا أخفيك سرّاً، لن أمانع من وجود مصنع شوكولا ضخمٍ بجانب تلك المزرعة، لا تدقّق بالألغام التي تفخّخ تلكما الأمنيتين.
تذكرين «أنا» كثيراً اليوم؟
أساعدكَ لتتعرف على بعضي، ثمّ إن أحدهم أحبُّ حرفه طبع كتاباً كاملاً ذات عمرٍ عنوانه:” أنا ”، أفلا أكون كويتبةً تمشي على دربِ كاتبٍ تحبّ؟
أثرثر، لأنّ لديّ غصّةً غريبةً هذا الصّباح، تشبه رقم ثلاثة عشر وخرافة شؤمه، لقد انفرطت أحجار سواري الأخضر فجأةً بلا سابق إنذار، اثنا عشر حجراً قرّروا أن يطلقوا سراح يُمناي علّي أكتب أسرع، لم يزعج صباحي ذاك فقط، لقد تزامن انفراط السّوار مع انقطاع الخلخال، تبدو تلك إشارات نهاياتٍ متتاليةً مترابطةً سريعة، تخبرني باستعجال قدري وإنهاء رسم معالم أحلامي، للبدء بتنفيذها، فلا حاجة للأساور والخلاخيل وكلّ ما يبطئ سير خطواتي ومسيرة كلماتي بعد اليوم.
أعدكِ أن أضمّ لكِ السّوار والخلخال حينما نلتقي حجراً بحجر، سأبحث أثناء طريقي إليكِ عن خيطٍ رفيعٍ لا ينقطع، أربطهما لكِ وأرتبط بهما فيك بإحكامٍ تباهين به الصّديقة السريّة قائلةً: وآخراً وليس أخيراً فعلها الزّبرجد.
لقد فاجأتني حقيقةً، توقعتك كسائر النساء إلى الذهب منحازة، تقولين أنّ سوارك من حجر، هل تصدقين القول أم أنّه فخٌّ أُنثويٌّ تكتيكيٌّ مدروسٌ تجرّينني به إليكِ علّي بسببه أقع، ثمّ إذا ما وقعتُ تمكّنت منيّ أحجارك النّفيسة مثلي، وقهقهت بانتصارٍ كساحرةٍ فاتنةٍ تمكنت من فعل فعلتها بجدارةٍ وأصابت قلب الرّصين في مقتل، وضجّ العمرُ ضحكاً من الشيب تحكّم بِوَقاره خلخالٌ مقطوعٌ وَسوارٌ من حجارة!
تنحاز إلى الذّهب من لا تملكه ولا تملك شراءه يا صديق، السّوار جميل جداً، لا يتجاوز ثمنه ثلاثُ دولارات، أنا من صنعتُ له قيمة، وأنا التي زيّنتُ به صندوق المجوهرات، أنا من نقلته هذه النّقلة النّوعية من سوارٍ عاديّ إلى سوار يطوّقُ رسغ الكاتبة.
كاتبة!
نعم، أرجو ذلك، من كلّ قلبي أرجو ذلك، ثورةَ قلمٍ على من استفزّوا هدوء حرفه يوم أخبروه بأنّه يحتاج عمراً كعُمر نبيّنا نوحٍ حتّى يُخلّده الزّمان كقلم أجاثا كريستي وميّ زيادة.
لمثل تلك الكتابة أرنو ولمثل ذلك الخلود أطمح، ولهذا أكتب لك زبرجد، لإيماني أنّك تؤمن بي، ولأنّك تدعو لي أن يشرق حرفي بالحبّ ساطعاً في هذا العالم الرّهيب، يكفيني إيمان شخصٍ واحدٍ بإرادتي ورغبتي الآن، يستطيعُ رؤية المستقبل الذي أرى.
أنا أحبُّ المتفائلين يا زبرجد، أحبّ من يقيمون الصلوات، يضحكون وينشرون الكون ربيعاً وأملاً وعملاً ووجدانيّة ووجود، أحبّ أصحاب الهمم والسّعاة بكفاحٍ وتحدٍّ نحو القمم، أحبّ أن أكون منهم، أحبّ أن أدعو لي ولهم تمام الثالثة فجراً وربّ الكون يسأل من السماء الدنيا: هل من سائلٍ فأعطيه؟ أحبّ أن أصلي معهم تمام الخامسة أيضاً، وأحبّ أن الشمس تشرق لأجل عيوننا تمام السادسة كلّ يومٍ في أرجاء الكون حالفةً: أنتم الشمس وأنتم من عليّ يشرق.
هلاّ دعوت الله لي يا زبرجد، هلاّ سألته أن يجعل لهذه الفتاة بصمةً في الكون كما تحاول، هل تُستجاب الدّعوات وتأتيني يوماً بقميصٍ سماويٍّ وذراعين مفتوحتين على مصرعهما استعداداً لضمّة الأخضر يبارك تحقيق أحلامي، هل تأتي أحلامنا على مقاسنا تماماً هذه المرّة؟ كم أتمنى.
لقد ثرثرتِ كثيراً هذا الصباح يا هذه، ما ذنبي أن يقتطع رئيسي في العمل جزءاً من راتبي لانشغالي بقراءة رسائلك؟ ألا تؤجّلين كتابتك لحين تصادف إجازتك مع إجازتي، يبدو ذلك مشوّقاً أن أتفرّغ للثرثرة أيضاً، لقد بدأت أنسجم معها حرفاً بحرف، لديّ سؤالٌ عَرَضيٌّ ذكوريّ لا بدّ منه، ألم تحن على توقيتك ساعة الغداء؟
لقد حانت، لكنّني لا أشبه نسوة لفّ الأرز بأوراق الفواكه والخضار في شيء، لا تستهويني فكرة هدر الوقت بالسّاعات لأجل وجبةٍ لا يستغرق تناولها عّدة دقائق، ليس أنّني لا أعرف لها طبخاً أو لم أجرّب، لكنّ الفكرة بحدّ ذاتها مزعجة، لا تخشَ جوعاً إن زرتني يوماً مّا يا صديق، علمتني والدتي أسرار المطبخ من الألف إلى الياء، لكنّ أحداً في الكون لا يستطيع إجبار حرٍّ على تطبيق كلّ ما تعلّمه، العلم بالشيء في كثيرٍ من الأحيان وسيلةٌ ومطلبٌ لا بدّ لنا منه ليس إلا.
لقد بدّلتُ البيجاما أخيراً، وصنعتُ حساءً فاخراً على الآخر، وبالشكر تدوم النّعم، أعرف أن فكرة أن يكون الغداء حساء تخيّب تطلّعاتك، نتناقش في ذلك لاحقاً، ونتبادل أنصاف حلول مُرضيةً للطرفين، ما رأيك أن تطبخ أنت في الدنيا، وأستلم زمام الطبخ في الجنّة؟
سمعتك سمعتك، تقول إنّ كيدكن عظيم، كيدكم أعظم وتعلم ذلك علم اليقين.
ماذا لبستِ؟
ليس من شأنك، ما زلت عنّي غريباً لا حقّ لك في رؤية هندامٍ أو شمّ عطر؛ نسيتُ أن أقول، أنا أتعطّر قبل مراسلتك دائماً، يبدو من السذاجة تخّيل أن الرسائل الرّقمية ستستطيع إرسالَ عبقِ العطور عبر الشاشات، لكنّ ذلك أضعف الإيمان حالياً، محاولةُ نسج خيالٍ أقرب ما يكون إلى الواقع.
حدّثيني عن طقوسك الكتابيّة شيئاً يسيراً بعد، أحبّ أن أسمع؟
هل تسمع حرفي المكتوب؟
لحرفك صوت، أما علمتِ أنّ أحلى الأصوات أصوات الحروف.
أبتسم، أحبّ الموسيقى كثيراً، أحبّ ياني، وعمر خيرت، وتسحرني أنغام إياد الريماوي سحراً يأخذني من العالم الضّيق هذا إلى عالمٍ رحيبٍ رهيبٍ ليس له معالم، عالمٌ رحبٌ سرمديٌّ يتّسع قلباً شاء له الرحمن أن يولد بحجم درب التبّانة بل ربّما أكثر بكثير.
أريد أن أسرّك سراً آخراً قبل ختم الرّسالة يا زبرجد، وبعدها لا بدّ لي من التّفرّغ للدراسة قليلاً، هذه الرسائل لن تحقق لي حلم الدال يسبق إسمي، لكّنها بالتأكيد تغمرني شغفاً وهمّةً تجاه ذلك الحلم الشامخ العزيز.
أيّ سرٍّ جماعيّ ذلك الذي تسرّين به إليّ على الملأ بين سطور كتاب؟ أترغمينني إرغاماً أن أعترف بأنّي أغار؟! لا أريد لغيري أن يظنّ بأنّه المعنيُّ ولو ظنّاً عابراً، أنا الزبرجد ولا زبرجد غيري في حياتك يا فتاة.
أوه! سكت دهراً ونطق عطراً، لكنّني مازلت أريد أن أخبرك السرّ وإن اضطررت لمسحه من بين الرسائل لاحقاً، أنا أحلم، وأعمل على أحلامي، وما ذلك على الله بعزيز، أحلم بكتابة روايةٍ مؤثرةٍ تشبه “عتبة الألم”، أحلم بمسلسلٍ عنها يتفوّق على مسلسل” النّدم ”، وأحلم بالريماوي، يؤلّف معزوفةً عصيّة على النسيان تحكي عن حبّي العجيب لك، حبيباً لا أعرف له طريقاً بين بيوت الأحياء وقبور الأموات، لا أعرف من فينا يكبر الآخر، ومن فينا يكون الأوّل بإيجاد نصفه الثاني ذات صباحٍ باكر، لا أعرف متى ينام هذا الحبّ الكبير نومته الأخيرة، ومتى تلتقي العينان وتُتَبادل أشواق السّريرة.
ربّما نحن كأشجار الحدائق، شجرتان عملاقتان على طَرفي طريق العشّاق، تبدوان منفصلتين تماماً خلال العام، إلى أن يحين موعد الشتاء، فيكسو الثلجُ أوراقها ويثنيَ غصونها لتتعانق فوق الممرّ على استحياء، تجمعهما ضمّةٌ طويلةٌ ما دامت الثلوج، يخالُ المُشاهدُ أنّهما على هذا الحال طوال العام، ينهمر المطرُ ويذوبُ البَرَدُ وتفترقُ الأغصانُ من جديد، تتساقطُ الأوراق، وتنمو بعد ارتواء الحنين ودفء الوصال ورودٌ ملوّنةٌ وأزهارٌ جميلة، ويحتار الرّائي: هل يتخاصم العشاق؟ كيف يحتملون البعد على قربٍ ثلاثةَ فصولٍ من كلّ عام، ما درى بأنّ العناقَ الحقيقيّ عناقُ جذورٍ لا عناق فروع.
علّقوا على بوابة الحديقة الشّعر مكتوباً في وصف قصّة حبّ الشّجرتين الكبيرتين: وأبْرحُ ما يكون الشوق يومًا إذا دنتِ الديارُ من الديارِ.
يا ليتهم علموا بأنّ الحقائق أسمى من أن تراها عينٌ مجرّدة، وبأنّ الأرواح لا تنتظرُ إذناً من أحدٍ قبل أن تشدّه إليها.
كن بخير، كلّ خير، نهارك سعيد، نلتقي ذات شتاء لا بُدَّ أنّه آت.