مساء الخير، يبدو لطيفاً تخيّل أن يكون مساءنا صباحك لفرقٍ صغيرٍ في التّوقيت، يذكّرني ذلك بعينيّ أمي تسألنا أن لا نرسل صور مائدة إفطار رمضان إلى مجموعة العائلة لبقية أبنائها المغتربين في بلاد العمّ بايدن، لو أنّك ترى الحبّ الرّيان، تزهر بذكراهم وجنتيها لحظة الأذان، فتلهجُ بالدعاء مقسّماً بالعدل بين الأبناء والإخوة والأحفاد، المستقرّين معها والمهاجرين، والراحلين منذ زمن بعيد إلى العالم الآخر المجيد.
تقول: لكم أن تلتقطوا الصّور، ولكن لا ترسلوها لهم حتى أذان فجرنا موافقاً أذان مغربهم، لا أريدهم أن يشتهوا لقمةً حتى وإن ملكوا أطايب الدّنيا، لا أملك صنعها لهم على بعد عشرة آلاف ميل، وما باليد حيلةٌ لإرسالها أيضاً، ما أجمل مراعاتها ورعايتها وحرصها، كم وددت لو أنّ لديّ مثل تلك العاطفة الدّفاقة والإنسانية الفيّاضة، لو أنّي أصير يوماً مثل أمي فذاك حلمٌ عطرٌ لي، كم أتمنى أن أملك قلباً يهتمّ كقلبها وما أشقّها من أمنية .
جميلةٌ حنونةٌ لطيفةٌ، بلا شكٍ حازمةٌ وعصبيّة، هي العواصم الشرقيّة مجموعةً في جسدٍ كأبهى مدينة، أمي، ومن مثل أمهاتنا يا زبرجد؟
قد كنّا نسياً منسياً، لولا صبرها علينا سنين طويلة وتوجيهها ونصحها ومتابعتها لنكون ذوي قيمةٍ ومعنىً في الحياة، لقد أتعبتها معي كثيراً، كانت آخر العنقود، وكنت بكرها، المسافة العمريّة بيننا تتسع لصديقتين أكثر من مجرّد أمٍ وابنة، قلتها لها عشر مرّات : لا تحلمي أن أراكِ عجوزاً ما حيينا، أنا أراك الأمّ الصغيرة التي تعلّمت الأمومة عليّ وجربتها معي لأوّل مرّة، فجاء البرّ عجيباً بأن عاش متمسكاً بروح صداقتها وكم يتصادم الأصدقاء.
كبرتُ وكبرت أمي، أراني هذه الأيّام أمَّ أمي، وأحياناً أختها الكبيرة!
ألاطفها كآخر العنقود ثانيةً، يبدو مثيراً للسخرية أنني أخشى الأربعين أثناء خشيتها من الستّين! نتأمّل بشرتنا معاً، نبكي ونضحك ونتشاجر كل يوم، نتشارك الذّهاب لمواعيد المستشفيات الدوريّة، ونثرثر مع النسوة العابرات في غرف الانتظار، نضع بصماتنا في المجرّة أينما حللنا أهلاً وسهلاً ومسكاً طيّبا، أعيشُ العمر معها عمرين في سنيني هذه، يحسبني الأغراب تارةً أخت أمي، ويحسبونني تاراتٍ أخت ابنتي! وحُلَّ تلك الأحجية إن وجدت لها حلاً يا صديق، في أيّ عمرٍ أنا الآن، لا أعلم، الحقيقة الوحيدة التي أيقنها أنّ أعمارنا الحقيقية لم تُطبع على شهادة الميلاد بالتأكيد، عمري تراه إن حدّقت في عينيّ ثلاث ثوانٍ متّصلة دون أن ترمش وتفقد توازنك.
أحبُّها كثيراً، تعبيرٌ شائكٌ يبدو حمّال أوجه، نحن في عمرٍ نُدرك فيه أن ليس الجميع يحبّون أمهاتهم ويمتنّون لهم، وأنّ كثيراً من الأمهات أمهاتٌ بيولوجيّاتٍ فقط، وأنّ الأمومة أعمق من رعاية، وأعقد من تربية، وأطول من حبّ، وأفنى من حياة.
كيف هي أمك؟ هل ما زالت الحياة على قيدها الجميل؟ هلاّ حدّثتني عنها يوماً؟
لحظة، لقد تذكّرت، أريد أن أجيب سؤالك الذكيّ : نحن لا نعرف النّاس من ظلالهم يا زبرجد، بل لا نعرف ذواتنا حتّى من ظلالنا، خاصّة أننا نعيش ظلالاً رقميّة معقّدة في المائة عامٍ الأخيرة، من أوتي فيها نور البصر والبصيرة عبر تحليل ظلال النّاس والنّأي بنفسه عن سراديبها المُخيفة المخفيّة فقد أوتي خيراً كثيراً، لكنّنا أحياناً، إن كنّا قرّاءً محترفين لما بين سطور الكُتّاب، قد نعرف أحداً من حرفه، من حديثه عن أمّه حصراً كونها الحبّ الأول والآخر في الحياة، عن حبه لها وغضبه منها وصورته معها.
لقد صوّر أحدهم يوم الأم صورة أمه ونشرها على الملأ للغريب والقريب، لا يروقني ابتذالُ الحبّ ولا أؤمن به ولا أصدّقه، الحب مستورٌ على الدوم، هذا ما أفهمه، اعتصر الألم قلبي لحظة تأمّلت صورتها الأخيرة، وبسمتها المريرة، تلويحها بيمينها للكون وداعاً، قلت لنفسي : لو أنّه علم بما شعرت لعلّقها على جدار منزله، وليس على جدران الشبكة الافتراضيّة هاتكةِ الأسرارِ وفاضحةِ الأخبار.
للمؤمن فراسة، وأرجو أنّك كذلك، لقد بدت تلك الصورة صورة الوداع الأخيرة للأم الرؤوم التسعينية الجميلة، لا يأتي العام القادم وهي بيننا وأذكّرك بذلك، للأسف، أملك حاسةً سادسةً معقّدةً، ومشاعرَ غريبةً كتلك التي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالموت أكثر من الحياة، ربّما لأنّ أكثر من أحبهم في الكون سافروا على عجلٍ إلى هناك.
تضايقني تلك الحاسّة كثيراً، ولا حلّ لها، خيالٌ مضطربٌ واسعٌ مزعجٌ مضحكٌ بديعٌ مريعٌ سريعٌ بطئٌ لا حدّ له ولا قيد عليه عافاني وعافاك الله، لا أعرف لماذا تتعثّر كلُّ تلك الأحاسيس إن حاولت توجيهها إليك، لتخيّل ما تؤول إليه علاقتنا ورسائلنا مستقبلاً، يبدو مربكاً أن تفقد مهارتك وشطارتك في المكان الذي تحتاج فيه إليها، يا للعجب.
أمّي تدعو لي اليوم كثيراً، تدعو لي دعاءً لا أعرف إن كنت أستحقّه، أقول لها ممازحةً : يكفي يا أمي، دعواتك تستجاب سريعاً، هلّا وجهت الدعاء لبعض إخوتي بدلاً عني هذه الفترة.
لقد غمرتني رحمات الرحمن لطفًا بدعواتها غمراً، يحيطني حنان الصلوات صباح مساء، كم أخشى وداعها، أخاف أن تأمرني الحياة أن أكبر أكثر يوم رحيلها إلى دار السلام، يؤلمني أنّي أُمتحن في إيماني حينها، أتمنّى لو أنّي أستطيع إيقاف الزّمان، وليس بالتمنّي يكون لنا ما نريد، أحبّ أنّ الله اصطفاني لنعيش سويةً هذه الفترة من العمر، وأحاول ما استطعت أن أذكرّها أنها الملكة وأقنع نفسي عبثاً بأنني الأميرة، أختطفها من مملكتها، وأسرد على مسمعها من الغزل ما تحب الأمهات أن تسمعه.
أوَ يتغزّل المرء بأمّه يا هذه؟
: نعم نعم، إن لم تتغزّل بأمك ابتداءً فمالك من حقٍ أن تتغزّل بأنثى في العمر لاحقاً، من نالَ ضحكةً حقيقيّةً نابعةً من أعماق قلب أمّه لغَزَلٍ غزله إليها حيّز له الحبُّ لاحقاً بحذافيره.
تتورّد خدودهنّ المُتعبة من تجاعيد السّنين إن أثنينا على لون الصّبغة أو قصّة الشعر والثّوب الجديد، تحببن ذلك، وترفرف قلوبهنّ الطّيبة كقلب صبيّة لم تبلغ من العمر الثامنة عشر بعد.
حاول لأجلي أن تحبّ أمك! سامحها على ما كان، لم تعلم والدتك الطّيبة آنذاك، بأنّ أُمّاً عاديّةً عابرةً في الكون ستهتكُ أسرار مقلتيك وأنت تبتسم بألمٍ _وما كنت تبتسم_! وبأنّ أنثى غير عاديّةٍ سترى الطفل المكسور في بحر عينيك لم يكبر يوماً مذ قارنَ حبَّ أمّه له بحبّها لشقيقيه الأكبر وحنينها إليهما صباح مساء، لو أنّها علمت بسذاجة تفكير الطفل البريء غيرةً على قلب أمّه لما دعت لهما يوماً أمامه، لقد كنت آخر العنقود أيضاً، ألا تُدرك معنى أن تكون آخر العنقود عند الأمّهات وأنت في مثل هذا العمر؟
لا يعقل هذا يا صغيري! كما لا يعقل أن أصفك بصغيري وأنت تكبرني بعشرين عامٍ أيضاً، غير أنّي أخاطب الآن الطفل الجريح الكليم الغاضب المختبئ بين جنبات النّفس البشريّة، الذي رأته عينا الأمّ فيّ وما عرفت لمداواة جرحه من أمّه بلا عمدٍ سبيلاً.
لو تعلمُ الأمّهات أي تشوّهاتٍ نفسيّة وعُقدٍ عاطفيّة قد تنتقل معنا عبر السنين بسبب المقارنات السّخيفة غير المقصودة أحياناً والمقصودة عن حسن نيّةٍ كارثيّةٍ غالباً، لعددن للألف قبل كلّ كلمة تقلنها لنا، ولو أدركوا مبكّراً أيّ عظماء يعبرون التاريخ عبر كلماتهن ّأيضاً لما شغلهنّ شاغلٌ عن طفولة الأطفال لابدّ أن تُكرم بالحبّ الكبير حتى الاشباع كي لا يتحوّل الحبّ تسوّلاً نتجرّعه ولا نكاد نسيغه مستقبلاً.
الأمُّ الحكيمة تغمرُنا بالحبِّ الكثير، حتى لا نحتاج لمن يغمرنا حباً بعد حبّها ما حيينا، بل نحن بفضل حنانها نغمر الكون حباً، ويفيض السلام من أنفسنا على العالمين رضاً ونوراً وقرباً.
أيّامي عطرةٌ بقرب وردتي الجوريّة، تخيطُ شالات الصلاة صباحاً، تتعاهد أحفادها عبر الزمان والمكان بحفظ كلام الله مساءاً يوماً بعد يوم بلا ملل، تغنّي لها العريشة، وتعشق رائحة غارها الياسمينة.
اللهم احفظ لي من تودّعني كلّ صباحٍ: الله معك، وتستودعني كلّ مساءٍ: الله يرضى عليك، وتطمئنني كلّما سائلتها: هل تدعين لي؟ فتجيب تكراراً مريحاً: الله العالم، الله العالم.
الحياة أم، وجذرُ شجرة الحبّ العملاقة أم، والأمّ دعاء، والكاتبة تدعو لكلّ من عرفت ومن لا تعرف، تدعو بقلب أمهات الكون لكلّ من تلمحه أو تسمعه أو تشعره في هذه الحياة قائلةً: كن بخير، كلّ خير، أمّك أنا، بل أنا للكون أُم.