عندما تشبهك الأشياء

جاهدتُ نفسي كثيراً كي لا أكتب إليك، لكنّ الكون كلّه بدى أنت، مُذ فتحت عينيّ صباحاً استنشقتُ العطر القديم، قررت اشغال نفسي، وَصَوْنَ كبريائي، لا يليق بي أن أعبّر عن هذا الفقد المهول لك، سأصنع لي ولعائلتي يوماً مبهجاً سعيداً بعيداً عن كلّ خاطرٍ يمتُّ بأيّ صلةٍ إليك، أستطيع بلا شك، أُتقن مهارة إعداد الحفلات والتنسيق للتجمعات بجدارة، يشتهي الأطفال الحلوى والمثلّجات من بين راحتيّ، ويطيب لهم سردُ الحكايات والأسرار بين ذراعيّ، سنصنعُ يومنا، سنتناساك، وسنعبر بقوةٍ معاً شهراً آخراً من البحث بلا جدوى عن عينيك، أُسرةً جميلةً قويّةً متماسكةً لا حاجة لنا بك، استمتع حيث أنت، إيّاك أن تبحث أو تفكّر أو تشتاق، تليق بك النّرجسيّة كثيراً مغرورِيَ الجميل.
_ كيف نسيناك؟ وكيف صنعنا النّهار؟
= حسناً، لم يكن ذلك صعباً للغاية.
افتتحت نهاري بالصلاة، فوجدتني أختمها بالدعاء لك كالعادة! قلت لا بأس، لا تبدو كبوة، لا ينبغي تغيير الطيّب من العادات.
ثمّ توجهت لسقي شتلات الأزهار لعلّي لا أفكّر بك ثانيةً، كانت كلُّ براعمها تتفتحُ بحرّيةٍ أخّاذة، كتلك التي تحبّها بي وأعشقها بحرفك لا يخشى في الله لومة لائم، أظنُّ أنّك تمتلك حديقةً سريّةً كحديقتي، فكلانا بدون الحدائق والتصوير والهررة والعصافير لا نعيش، نحتاج أرواحاً كثيرةً حولنا طول اليوم وطوال الليلة؛ مهلاً مهلاً، هل أذكرك الآن!
إنها الثالثة منتصف النهار، جمعت الصّغار، وانطلقت السيارة يميناً، بلا وجهة محددة بعد، العشوائيات تبدو جميلةً أحياناً، أين نذهب، هل من فكرة؟ ماذا تفضلون أن نتناول على الغداء؟ تختارون أم أختار؟ ضحكوا وصمتوا، يعلمون أنّي إن اخترت أكرمتُ وأبدعت، فكان لهم ولي ذلك، يومٌ جميلٌ مكتظٌ برؤية النّاس، تحمل ملامحهم الحياة بكل ألوانها وتقلّباتها.
ننفق المال طواعيةً بإكرامٍ ونحن نتفنن في صناعة ذكريات طفل، ليس أجمل من أن يذكرك بعد الرحيل بسبب وجبته بدت له كوجبات الكبار، وبسبب كيس حلوى ممتلئ لطالما بكى على بوابات المجمعات التجارية يشتهيه والأم تقول قولَةَ عمر: أكلما اشتهيت اشتريت؟
طفل، ليشتهي، ولنشتري، لا يبلغ تفكيره الغضُّ إرثاً ضخماً من أموالٍ بعد رحيلنا، أقصى أحلامه هذه اللحظة ذوبان المارشملّو في فمه، لا حاجة للمبادئ البرّاقة على الدوام، لا بدّ من تجاوزاتٍ صغيرة كُرمىً لمثل هذه البسمات.
نسيت نفسي معهم، ثلاثةٌ يتقافزون مرحاً أثناء الاختيار، يملأُ البائع أكياسهم فيمتلئ معها قلبي بهجةً وسروراً.
أريد أن أنساك يا زبرجد!
ولكن..
لماذا تمنيت أن نتشارك الحلوى سويةً الآن أيضاً؟
لماذا تصرُّ أن تخترق لحظاتي هادئةً وصاخبة؟
لماذا أراك بين الوجوه وجهاً لا أعرفه؟ هل تتخيّل في أيّ حلمٍ من أحلامك أنّ فتاةً تدعو لك بلا ملل!
إن ضاق صدرها قالت: ربما حَزِن!
وإن بكت قالت: وربما ضَجِر!
وإن أشرقت قالت: هو بخير.
أهو حضورٌ نفسيّ؟ أم أنّهُ تخاطب أرواح؟
لماذا أشعرك منّي؟ أيُّ دروس الحياة تريد أن تعلّمني عبر الأثير؟
هل أنت موجودٌ حقاً يا زبرجد؟ هل نعيش في نفس الزّمان؟ أم أنّك عبرت الحياة دون أن تلقاني منذ زمنٍ بعيد؟
أم أنني أنا التي أمُرُّ على الحياة قبلك، وتكتب لك، وتدعو لك، قبل أن تستقبلك الدنيا أصلاً.
ربما، من يدري، لو كان كذلك، فأرجو أن كلماتي ستصلك بشكلٍ أو بآخر، ربما بعد مائة عام، وربما كانت ألف!
المهم أن تصل، أن تُدرك أنّ إحداهن أحبتك كما يليق بالحبّ أن يكون في زمن من الأزمان، أنها انتظرتك حتى غضب الانتظار، أنّها دعت الرحمن زمنا طويلاً أن يفتح لك فتوح العارفين، أن يبلّغك مجداً لا يُهدّ ويرزقك سعداً لا يعدّ.
لا تعرف تلك “الإحداهن” لماذا ولدت بمثل هذا القلب المرهف الخفّاق، ربّما كانت نقمتها نعمتك، وألمها أملك، ودعاؤها فرحتك.
لا أعرف لماذا تقتحم عليّ كثيراً من التفاصيل!
أقول لصديقتي أنّي تمنيتك ألف صباح، وسكّينتي تقسم الشطيرة مائلةً إلى نصفين، لطالما أعطيت النصف لشريك، وترقبتك تدخل المطبخ بعينين لم تتفتحا تماماً بعد، تلتهمُ نصفك على عجل، ويوسوس لك الشيطان بالاستيلاء على نصفي، ثمّ تخرج بلا صباح الخير!
معظمكم هكذا متى ما غُلّقت الأبواب، ولعلّ هذا سرّ عدم اصطدامنا كونيّاً حتى اللحظة.
عموماً، لقد فاتتك شطائرٌ لذيذةٌ كثيرة، أرسمها رسماً، وأدعو لك في قلبي مع كلّ اعداد شطيرة قائلةً: صحّة، حتى وإن لم يقدّر لي العناية بتلك الصحّة بعد.
يا إلهي! أنا أذكرك ثالثةً؟ هذا كثيرٌ حقّا؟ أتراك تذكرني أيضاً؟
المهم، سأثرثر لك عن يومي، أريد أن أحكي، لا تردّ، وإن شئت لا تقرأ، يكفيني أن أكتب وتستلم وأبتسم لأنّي لم أستسلم.
أستيقظ أحياناً بحبٍ عريضٍ يجب أن أطلق سراحه لأرتاح.
أطلقته اليوم عدة مرات، مرّةً كانت بقبلة والثانية بضمّة.
القبلة كانت مسروقة، جدّةٌ لا أعرفها تجلس إلى كرسيها متعبة من سنواتها الثمانين، كنت قد تجاوزتها عدة أمتار، تملّكني شعورٌ بأنها قد تكون جارتي في الجنّة، وأنّي لو كنت بعمرها قد أشتاق لتعبيرٍ لطيفٍ عن الحبّ ولو للحظة يُشعرني أنّي ما زلت على قيد الحياة، وأنّ لي حقاً فيها أن أُحبّ وأُحَبّ، عدت راكضةً إليها، وضعت يميني على خدّها الأيسر، وأرحتُ قبلةَ حبٍ على خدّها الأيمن، تبسّمنا، ودعت لي، ومضيتُ وما مضى عناق العينين.
أمّا الضّمة، فجاءت على عجالة بلا تفكير، كنت أتأّمل الأطفال في الحديقة، يلعبون وكأنّ كورونا لم تكن إلا في المدارس، يصعدون الألعاب يتأرجحون بالمراجيح، ويستحمون بالرّمل استحماماً يليق بصيفنا الجميل، وصبر أمهاتهم الطويل.
صرخةٌ مدوّيةٌ قطعت جمال المشهد: ماما!
يصمت الزّمان، ويتسمّر الآباء والأمهات لرؤية طفل متدلٍّ على ارتفاع مترين من أعلى لعبة قلعة الأطفال متمسكاً بكفّين صغيرين يكادان ينزلقان بجسده الممتلئ إلى أسوأ نهايةٍ كان قد واجهها بسنواته السبع في حياته، لا يريد أن يموت سقوطاً من على لعبة يحبُّها فوق الرمال أمام الناس وأمه حاضرةٌ موجودة، يبدو مثيراً لسخريته أن يموت وأمّه تراه! فيصيحُ ثانية وثالثة بأعلى الصوت مستنجداً ومكرّراً: “ماما ماما”.
لا أعرف كيف انطلقت ساقيّ بأقصى سرعةٍ إليه وكأنّني أمه، طفلٌ أفريقيٌ تركض إليه أُمٌ شرقيّة رافعةً لهُ ذراعيها: هات يدك، لا تخف، سألتقطك، كانت دموعه جميلة جداً! شددت بكفّي على كفّيه، طمأنته أنّي لن أفلته، ثمّ كانت الوقعة التي تهاوى فيها من الأعلى إلى ما بين كتفيّ، تمنيت ودعوت الله أن تأتيني استجابة دعواتي على شاكلة الضّمة التي ضمّنيها، واحتويته بها أُماً لا تعرفه، مسحتُ الدمعة، أهدّئُهُ: حبيبي انتهى، الحمد لله، أقرّب له فردة حذائه التي سبقته سقوطاً، ألوّح لوالدته من بعيد، ويستفزّني للحظةٍ منظر الرجال المتكئين تأملاً للمشهد لم يسبقني بالركض منهم إلى للطفل الصغير أحد.
كان اليوم دافئاً جداً، أن أعيش المشاعر اللذيذة تلك مع جدّة وطفل، فهذا يشبهني كثيراً، أحبُّ كلّ فترةٍ وعظ نفسي بزيارة المقبرة وإتباعها بزيارة حاضنة المواليد في المستشفى، فبذلك أختصر رؤية العمر كاملاً في يوم.
من يدري، ربّما تجمعنا محض صدفةٍ تكتمل فيها الحياة كلّ يوم، كن بخير، كلِّ خير.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *