لماذا لم تسألني ولا مرّةً عمّا جرى معي حينها؟
ألم يراودك الفضول لمعرفة التفاصيل وتحليل الأمور؟
أما علّمتك نسوة عمرك أن النساء لا ترتحن إن لم تبحن بخواطرهنّ، بأننا نفقد عطر عبيرنا وشذى أريجنا إن فقدنا الاهتمام؟
إن قلت لا، فإننا لا نتفق بعد اليوم إذاً، لا أحبّ الأسرار كثيراً، لا أخاف تركها عند من أودّعهم، ربما ليست ذا قيمةٍ تذكر، إلا أنني كبرت مروراً بها ونضج تفكيري بتجاربها شيئاً يسيراً، أمّا قلبي فلا شيء ينضجه أبداً، أحمدُ الله أنّه محبوسٌ مع رئتيّ داخل اثني عشر زوجٍ من أضلاع القفص الصدري مرتبطةً بالعمود الفقري حبساً رصيناً، لولا ذلك فلا أظنّ أنّ شيئاً ما يسيطر على أنفاسي وهي بالفقد تتنفسك وعلى قلبي وهو بالانسجام ينبضك كلّ صباح.
لم يوفّق مُقيمواالمسابقات العالمية في طرح مسابقة أوسع قلب في العالم حتى الآن، ربّما حينها ستدرك متأخراً جداً أي قلبٍ في الحياة ذاك الذي كان يتّسعك ويتوق شوقاً أن يحاكيك ويلتقيك، ذلك الرؤوم الذي ما ملّ يوماً أن يناديك.
لن ألومك كثيراً، تعوّدت، سأكتب فقط، فالكتابة أضعف الإيمان حتى يقضي الله بيننا بالحق أمراً كان مفعولاً، ربّما لم أخبرك بعد، أنا أسجّل لك صوتي أحياناً أيضاً، وتحتفظ لك به صديقتي، علّك تسمعه يوماً ما بعد رحيلي، أريد منك أن تسمع تلك الصوتيات كاملةً، كنت قد سكبت أثناء تسجيلها كثيراً من روحي، سمعها كثيرٌ من النّاس قبلك على مختلف منصّات التواصل الاجتماعيّ، كثرٌ راسلوني وتعرّفت على لطفٍ جميل منهم، ولكنني لم أبرح عادتي السيئة التي ما فتئت تنتظر أيّ اشارةٍ منك يوماً بعد يومٍ، بريداً الكترونياً واحداً يقول: ها أنذا، لملمي بعثرة حروف أشواقك، كفاك بحثاً، كفاك حنيناً، لطفاً بنبضكِ عليهِ اللهفة، أنا أسمعك من المستقبل يا بلسم الروح، هل ارتحت الآن؟ هاكِ جواب أسئلتكِ التي لا تنتهي، أنا أسكن في السماء الثالثة، يفصل بيني وبينك يا صغيرتي ألف وخمسمائة عام على الأرجح، ألا تعلمين أن المسافة بين كلّ سماءٍ وسماءٍ من السماوات السبع مسيرةُ خمسمائة عام؟
ثقي بي وصدّقيني، كلانا بخيرٍ وفيرٍ والحمد لله أنني لست في السماء السابعة، لقد صمد الشوق أمام أربعين سنةٍ وأربعمائة بعد الألف حتى اليوم ولا زال كذلك بكلّ إباءٍ وعزيمة، أفلا يُكمل خيره بالثّبات ستّينَ أخيرةً قصيرةً تفصل بيننا ثمّ تصلين إليّ فنلتقي ولا تقلقي؟
مللتُ انتظارك، الكون كلّه يشير إلى أنّنا لا نتعارف أبداً، أضع ذلك في الحسبان، وأدركهُ من إشارات ناموسه تأتيني تباعاً، كنتُ أتلو قد نرى تقلّب وجهك في السماء وأدعو الله أن يولّيني القبلة التي أرضاها في حياتي عصر اليوم، فكان من المصادفات الطّيبة أنّ صلاة التراويح افتُتحت بسورة الإسراء وخُتمت وترها بالضحى وألم نشرح، فأنصتت روحي قبل أذنيّ.
أفهمُ أنّك محض خيالٍ أتّكئ عليه حتّى أستطيع انجاز مهامّي اليوميّة ليس إلاّ، وأنّك السند القوي أستند بظهري إليه فلا أخشى تعثّراً أو مباغتة سقوط.
عدت إلى البيت وفتحت الهدايا المخبّأة منذ سنوات، فككت صناديقها بغضبٍ واحداً بعد واحد، وأفرغت محتوياتها وزيّنتُ بها الصالة، لم أعد أريد مشاركتك بهجة المرّة الأولى وإن أتيت، كم تمنيتُ أن يكون نصيبنا صباحٌ عذبٌ نفتح فيه تلك الخبايا معاً، أعرف أنّ تأخيرتك لخيرةٍ لا يعلمها إلا الله، خيرةٌ محيّرةٌ تدفع مئات صباحاتي للاستمتاع بالحياة بكلّ ما أوتيت من أمل، صباحاتٌ يُغيظها قلم الدرويش يوم كتب: “تُنسى كأنّك لم تكن”، هلّا بعتني شيئاً من ذلك النسيان أيها الأديب؟ يبدو أنك تكذب كثيراً فيما تكتب مثلي كي تستطيع أن تعيش.
اسمع وركّز فيما أكتب وأقول زبرجدي: أنت أسوأ إنسانٍ لم أقابله بعد في حياتي، أسوأ من انتظرته بلا شك، أتجرأ عليك لأنني لا أعرف من أنت، ففي مثل هذا اليوم أراك شبحاً ليس إلا، بالتأكيد لست ملاكاً، أنت شبحي السيء المفضّل الجميل، شبحي الذي سأقتصّ لنفسي منه قصاصاً مبرحاً يوم ألقاه، شبحي الذي أصبحت بسببه أتعلّم كيفيّة عناق الأشباح وتقبيلهم عند اللّقاء.
لو أنّ أحداً يخبرني أنّك رحلت منذ زمن بعيد، لو أنّ أحداً يرسل لي صورة شاهدة قبرك، لو أنّي أعرف تاريخ ميلادك أو يوم وفاتك، لحُلّت الألغازُ واستقرّت روحي والسلام، إن ترقّب رؤيتك في الجنّة يبدو أهنأ بكثيرٍ من أملٍ بلمحة بصرٍ في الدنيا.
تصرّ على تشتيت تركيزي كثيراً، أراك في كثيرٍ من البسمات وأسمعك بين كثيرٍ من الدّعوات، لديّ قدرةٌ جيدةٌ من خلف هذه الشاشة ولوحة مفاتيحها لأن أُخرج الحيّة من وكرها، وأن أهزّ كتفيّ سعادةً بسماعِ وقراءةِ الكلمة التي أريد نيلها من أحدهم، هذا من فضل ربي أحسن مثواي، لكنّي بفشلٍ ذريعٍ لا أنال حرفاً واحداً منك مهما حاولت.
هل تعرف ماذا حدث اليوم؟ لقد أرصدت دونك الأبواب، لا أريد أن تصلني رسالةٌ مّا منك، لا أريد أن تقول صباح الخير ولستَ في صباحي، ولا مساء الخير دون أن ترى الذوق الجديد كسوتُ به ثيابي، ولا طابت أوقاتكِ وأنتَ لا وقت لديك لتطييبِ وتطبيبِ حياتي، أريدُ منك أن ترانى، أن تقول جميلٌ جداً، أن تسأل كيف تستطيعين دمج الألوان، كيف تستطيعين شراء كلّ هذه الحاجيّات دونما اهدارٍ كبيرٍ للمال، كيف تحافظين على مقتنياتكِ سنيناً تلو سنين، إلى متى تحتفظين بساعاتٍ وستراتٍ منذ الثانوية؟ لقد اقتربت من أن تصيري جدّةً يا فتاة، ماذا ستقولين لحفيدتكِ حين ترى الفستان الأوّل الذي ألبستك إياه والدتك في الحياة؟ أيّ جدّةٍ استثنائيةٍ في الكون غيركِ ما زالت تحتفظ بقطنيّات مولدها ودفاتر ابتدائيتها وساعات مراهقتها؟ هذه تفاصيلٌ كثيرةٌ جداً، كيف تطيقين الحياةَ بين أكوامِ الذكريات؟