إنّها اللّيلة الأربعون منذ رحيلك عن رحيلي، شُلَّ الزًّمان، وتوقّف المكان، وسكتت شهرزادُ سكتتها الأخيرة عن الكلام المباح والمستباح قبل أن يُدركها الصباح، كُلمت كما لم تُكلم أُنثى من قبلُ ولا تُكلم مثلها من بعد.
يتنفّسُ أنفاساً متقطّعةً ثقيلة، يرقدُ على سريره البارد رقدتهُ الأخيرة، إنه آذار من عام ألفين وستة وخمسين بعد الميلاد، لقد بلغ التسعين ولم ينسَ الصّبية السّمراء وعينيها الغزلانيّة، طفولتها وعنفوانها وهمّها وهمّتها وصوتها وضحكتها وحتّى أنفاسها بين الكلمات، رموشها الطويلة وشفاهها الورديّة وبسمتها النديّة، محبرتها لا تنشف وأوراقها وهي تتفلسف، ضحكتها عالياً وجنونها غالياً، وضجيجها لا يهدأ وهدوءها لا يصخب، وبكائها أثناء مكالماتها يبكي له من كان لهُ قلبٌ أو ألقى السّمع وهو شهيد، كانت أنثاه البكّاءة، لطالما تمنّى أن تقع بين ذراعيه ليتنفّس إنسانيتها الدّفاقة وأنوثتها الفيّاضة، كانت أعطرُ الأحلام تنفّس تلك الأنفاس وطبع القبلات على العينين والأنامل حانيةً حامية.
قارب أن يُفارق الحياة وما فارقت روحها روحه منذُ خمسةٍ وثلاثينَ عام لطالما دعت له أن يحياها بعافيةٍ لتعيشها بظلّه، فعاشاها متفرّقين، يرتقبان عن بعدٍ قرباً أبديّا لا حدّ عليه ولا حدود تفصل بين مُحَدّثيه في زمنٍ أشرف من هذا الزّمان ومكانٍ أطهر من هذا المكان.
التصقت بإحكامٍ بأحلام يقظته ومنامه، حُباً مفصّلاً تفصيلاً، دونما لمسٍ للخصر أو إراحة رأسٍ مثقلٍ بوجع الحنين إلى الصّدر، كانا كسائر نخبة العشّاق، روحاً شُطرت نصفين وأُودعت جسدين، لم يدرِ أحدهما من الذي فرض نفسه على الآخر، كانت خُمرةً لعقله وقلبه، لذّةً هنيئةً مريئةً سائغةً له دوناً عن العالمين، تجديداً أخيراً لشبابه، و انتعاشاً لنفسه المرهقةِ يوم أن قارب العمر الذي أرهبه العجز وأقلقه سرعة تسابق السنين.
يقول بأنّ لقائها كان محض صدفة، وتقولُ أن لا وجود للصّدفِ في الحياة مُطلقاً.
كانا مُختلفين تماماً كما لا يُتوقّعُ من قُطبينِ متنافرين أن ينسجما بسبب عشرات الأضداد بينهما.
لكنّه الهوى هوى بكلّ مستحيلٍ بينهما، مجيباً على المبهم من أسئلة العشّاق: نعم، الهوى أن نهوى كلّ ما لا نهوى ممّن نهوى حين نهوى!
وحلّها إذا بتحلّها كما يقولون.
لم يعِ الزبرجد المبجّل بجلالة قَدْرِه أنّ قاصّة ألف ليلةٍ وليلةٍ وقعت في غرامه سّيافاً وسجّاناً وسلطاناً منذ ألفِ عامٍ وَعام، وأنّها كانت تستلهم منه كتابة ألف رسالةٍ ورسالة له دون أن يدري، كانت ترسم صوته وحرفه رسماً برسم طيلة تعارفهما أربعين يومٍ علمت منذ بداية حوارهما الأوّل فيها أنّها ستنهيها بمجرّد أن تكتمل الصّورة وتمتلئ صفحات الدّفتر بالأفكار، تكتبها خلفه سريعاً مُحاضراً لا يتصوّر أنّ هذا الصّوت الرقيق الصّغير الذي يسمعه يواري حلماً حقيقاً كبيراً يبني مجده وينال سعده من حالة حبٍّ عاشها ذات عمرٍ كما كان يتمنّى وأكثر، ثمّ يُرصِدُ بوّابته بإحكامٍ مُكتفياً بذكريات عذب الصّوت وعذوبة الكلام.
كانت نرجسيّته تُملي عليه أنّ الأَولى لو أنّ الأُولى تتنازل عن كبريائها في بوحِ مثل هذا الغرام الفريد.
وكانت فيروز تغنّي لها: بعدك على بالي تمام الثانية عشر منتصف كلّ ليلة، ولا بال يرتاح ولا لحظة سلام بعدما هاجرته وما هجرته، وآلاف الأسئلة تتراقصُ ببؤسٍ أمام عينيها، كيف ولماذا، أيُّ حلقةٍ مفقودةٍ حالت بيننا، ما هو الشيء الذي لا أفهمه، ثمّة قطعة بازل لا أعثر عليها، لماذا لم أستطع حلّ أحجية كواليس هذا العشق الشّريد؟
هل بدى عشقاً؟ اعترفي بصدق، هل كان كذلك؟
لم تعد تعنِ الإجابات شيئاً، إنّها مجرّد سطورٍ عابرةٍ في خاطرةٍ سرّيةٍ الآن؛ أجل وربّ السّماء، كان شيئاً مؤلماً مؤذياً جداً، لم أذق مثل طعمه قبله قط، ولا أظنني أنالُ مثله بعده ما حييت أيضاً.
العشق شيء، شيءٌ مّا، لا يُشبِهُ أيَّ شيء، برتقاليٌّ جداً، غامضٌ جداً، لا هوَ حياةٌ ولا هوَ موت، شيءٌ فحسب؛ شيء!
تبالغين، والله تبالغين، الجميع يحب ويعشق ويلتقي ويفارق، تعطين شعوراً مرّ بكِ مُرّاً مُربكاً يفوق حجمه صدّقيني.
لقد مررت أنا به، وليس هو من مرّ بي، ركّزي!
أحبّ أنّك تركّزين على كبريائك حتى على سفوح الألم.
لا أقصد الأشخاص، بل أقصد المشاعر، متى تُفكّ شيفرة كلماتي مع أوّل نطق، ويُلتقط ما بين السّطور من أوّل مرّة، متى نرتقي عن ربط الحاجات بالناس، ونستقرّ إلى ربطها بأفكارهم؟ متى؟
الإعجاب الحقيقيّ الكبير والحبّ العريض في الشرق عادةً يُكرم ويُكرّم تتويجاً وتزويجاً.
أعرف الحبّ، بل إنّه يعرفني حقّ المعرفة، اللحظة التّي تتعرّى فيها روحك بتلقائيّة أمام أحدهم تسمّى حباً يا حكيم، الليلة التي تُرسَل فيها نفس الرّوح عمداً إليه لتزاحمه نصف السّرير تُدعى حباً يا فهيم، قرارك الضّمنيّ بأن تُجرّد أحدهم من عيوبه وتتجاوز له عن جهله وهفواته وتعذر أخطاءه وتراه كاملاً يرى نقصه الآخرون توصف حباً يا كريم.
نعم، لقد كان حباً لم تحلم به في حياتك السّابقة، ولن تحصل على مثله من غيري في حياتك اللاّحقة.
وحدي رأيتك جباناً كما لم يعرفك أحد!
أورثني خوفك وجعاً لا أعرف إن كنت أسامحك عليه يوماً، أنا إلى الآن أقف منك ومن سرّ مشاعري المعلّقة نحوك موقف الأعراف، ولا أملك تفسيراً يصف الشعور، إلاّ نبعاً من دعاءٍ وكفى، ووحده الله يعلم السرّ وأخفى.
=====
أنت سلطان الملاح،،
يا ملِك أنت مَلَك،،
زدت هتكي يا غزال،،
والهوى يا ما هتك،،
لو تراني يا حبيبي،،
قلبي من بعدك هلك،،
جدّ بي داعي الهوى،،
والجمال يا ما فتك،،
في ذوي الحسن البغي،،
كم وكم مثلي انشبك،،
يبتغي طيب الوصال،،
يرتوي ممن هلك.