عاداتنا لا تتغير بسهولة، لا زلت أرى أنّ التواصل بحروفٍ ساطعة التصريح خيرٌ من ذلك الضبابيّ آيلاً إلى الأفول كضوء شمعةٍ تحترق عبر أزقّة التلميح وسراديبه المظلمة، وكثيراً مّا يتجاهل المرء ما يرى وقد لا نعني على الدوام معظم ما نكتب وما نقول.
كيف حالك؟
لقد مضى من الوقت كثيرٌ جداً، كبرتُ سبعين عاماً خلال سبعين يومٍ وأكثر، كم تمنّيتُ لعينيكَ أن تراني مرّةً أخيرةً وأنا أبدو حكيمةً بشكلٍ لا يُعقل وعلى حالٍ لا يصدّق.
تأمّلتُ الزّاويةَ التي اعتدتُ أن أحدّثك منها، لم يتغيّر فيها شيءٌ يذكر، أقسى من أنّنا لم نعد هناك نلقاك.
لم أعد تلك الأنثى البكّاءة، تخلصتُ من كلّ دموع العمر مرّةً واحدةً بصحبتك الأخيرة، استطعتُ أن أخلع جلباب الذكريات عن قناعةٍ بهدوءٍ تامٍ أخيراً، عطّرته وقبّلته مائة قبلةٍ وقبلة، طويته الطوية الأخيرة دون أن يلحظ ذلك الوداع أحد، ضممته بين كتفيّ طويلاً ضمّة مودّعٍ للأبد، أودعته من ثمّ صندوق الرسائل والذكرياتِ وأقفلت عليه قفلاً محكماً كي أستطيع النهوض إلى حياةٍ لن أستطيعها طالما أتشبّث بمعتقدات الماضي التي لا بدّ لها أن تتغيّر ما تغيّرنا وما تغيّر الزمان.
لم أبالغ في الوصف يوماً، وعنيتُ كلّ ما قلته وقتها دوماً، كانت معرفةً مربكةً جداً وحقاً، من تلكم التي تتطلّبُ الضرب على الظَّهر بمساعدة الغير للتخلّص من أثر الصدمة حين تلتقي أحدهم “بمحض الصدفة” في رحلة العمر لقاءاً جوريّاً على مقاس فلسفتك تماماً.
نعيش الحياة ونحن نسمع عن الأربعين الذين يشبهوننا فيها دون أن نراهم، الرؤية رائعةٌ وتستحق، لكنّ ثمنها غالٍ جداً، دفعته بالتمام والكمال وأنا أدعو لك في ظهر الغيب ليلةً بعد ليلة.
كنت أعني تلك الخمسمائة عام! وعنيت تماماً بعدها الألف!! كما أعني الآن كلّ إشارات التعجّب الثلاث!!!
أيّ علاقةٍ وطيدةٍ تلك التي تربط كلانا بعلامة التعجب كحكايةٍ سريّةٍ لا يفهمها ولا يشعرها معنا في الكون أحدٌ سوانا؟
غصصتُ كثيراً وأنا أواصل مسيرتي وسيرتي في الحياة دونك، ودون معرفة أجوبة كثيرٍ من التساؤلات الطفوليّة التي لطالما خلقت سطور إلهامٍ أسطوريّةً مطوّلةً في مذكّراتي لاحقاً.
لماذا يتعارف النّاس؟
ماذا يريد الإنسان من الإنسان؟
متى نستطيع أن نخبر العلاقات بحزمٍ بأنّ أوانها قد آن؟ وبأنّه لا بدّ لها أن تُبتر بتراً؟
هذه أسئلةٌ يعرف إجاباتها المبادرون باتخاذ قرار الانفصال الحتميّ خلال تجارب التعارف عبر الزمن، القدرة على النجاة بروحك بأعجوبةٍ من وسط الطوفان ليست بالأمر السهل أبداً.
التغير من حالٍ على حالٍ إلى حال، يحتاج جلداً ليس كمثله جلد، ستفقدُ وتفتقد كثيراً، ستشتاق تفاصيلاً لم يستنشق أثيرها العطر الأخّاذ سواكما، ستعزف الكلمات ببؤسٍ ألحانها كلّ حينٍ وحنينٍ في الذاكرة، وتنزفُ أخواتها بين الضلوع كلّما هبّت رياح الشتاء وهطلت أمطاره وثلوجه الخيّرة.
هل تتأثّر علاقاتنا بالبشر بالفصول الأربعة؟ بالتأكيد نعم.
أبهاهم نلقاهم كصيفٍ طويلٍ نتجدد معه يوماً بعد يوم، تُشرق بشرتنا وبشريّتنا من جزيل لطفهم، صيفٌ يضجّ بكلّ فريد، نتعلّم منه ومعه اليسير والكثير، لا يتوقّف نبع جمالهم وجلالهم عن نصحنا وتوجيهنا وتعليمنا كلّ قيّمٍ لإشباع جوع المعرفة، لإرواء عطش الوصول للكينونة التي نبتغيها لذواتنا شمساً بعد شمس وصباحاً بعد صباح، نولد معهم خلقاً جديد، وتُرسمُ على صفحات وجوهنا ملامحٌ بهيّةٌ جذّابةٌ بفضل رفقتهم الماتعة، لا يحول بيننا وبينهم حولٌ ولا تبعدُ أرواحنا عن أرواحهم قوّة.
بعضهم يُبهجنا كربيعٍ عابرٍ يفتننا سحره وجماله، سرعان ما يمضي ونمضي ويعاودنا بعده عبر الحياة كلّ ربيعٍ ألفُ ربيع، سنّة الكون تقتضي أن ننساه لاحقاً كما نسينا كثيراً قبله وغيره.
البعض خريف، ترتاحان وأنتما تتخلّصان من لعنات حظوظكما العاثرة وأحلامكما الساهرة سويّةً، تحاولان بجهدٍ ايجاد فرصٍ لبداياتٍ منطقيّةٍ جديدة، تموتان معاً ابتغاءً لحياةٍ سعيدةٍ أو على الأقل ليست مريرة، وعند استيفاء خيباتكما يهرب كلّ واحد منكما على حدةٍ إلى البعيد بلا وداعٍ وبلا كلمةٍ أخيرة، لا يريد أن يتذكّر أنّ أحدهم شهد لحظات تعرّيه الروحيّ الكامل بأدقّ تفاصيلها في طريقه نحو استنباتٍ جديدٍ لشخصه، سعياً لإزهارٍ يأمل أن يُثمر ولو بعد حين. مثل هؤلاء نتناساهم، وبكلّ إرادة ننساهم لأنّ تلك خيرة علاقتنا معهم بلا شكّ، مصلحةٌ تعاونيةٌ عابرةٌ مؤقتة، من بعدها تمضي الأيّام مضيّ الكرام.
أعقد علاقاتنا عبر الوجود تلك التي ترتبط ارتباطاً شرطياً بالشتاء ومشاعرنا المرهفةِ يجنّ جنونها في لياليه، يا ويح القلوبِ المنهكةِ كم كابدت وتحمّلت ما لم تُحمد عقباه من مفاجآتِ فصل العاشقين هذا، تأتيك العلاقة منهنّ على طبقٍ فخمٍ من دفءٍ من ذهبٍ لا تملك تجاهه أدنى مقاومة، يشدّك إليه شداً ويسكنك أميراً صغيراً بين ذراعيه ويقول تربّع عليك الأمان فالدار دارك ونبضات قلبي زوّارك، يُذهلكَ سحر البيان يستقرّ به قلبك وتنتعش به روحك ويغنيك عن حطب النار وعن كلّ مدفأة.
شتائيّو العلاقات هم الأدهى والأمرّ في ذكريات التعارف عبر العمر على الإطلاق، أنت لن تستطيع أن تنسى أحدهم مهما حاولت وفعلت، صباحات الخير وتصبح على خيرٍ منهم ليلةً بعد ليلة، تصيرُ أوشاماً متناسقةً بديعة النقش على ظهر كتفك الأيسر، يراها العابرون في حياتك ما حييت شئت أم أبيت، حتى إن حاولت عبثاً لبعض الأيام أن تُخفيها عنك وعنهم محاولاً أن لا تتذكّرها وتراها.
بطريقةِ اجباريةٍ توشمُ على جلدك بألمٍ نقشاتٌ فتّانةٌ تحكي انحناءاتها: “هذا المسكين وقع ذات شتاءٍ في الغرام”، تُطبعُ بين عينيكَ اكراهاً جوريّةٌ شفافةٌ صغيرةٌ ترمزُ وتشيرُ إلى كلّ من أصيب قلبه في مقتلٍ من حبٍ بشتاء، ويح قلب الشتائيين ما أشقاه وما أمرّ حاله وأعتره.
بقيَ أن أقول، أنّ أجمل مشاعرنا وأبقاها أثراً في نفوسنا تلك التي ترتبط بالألم بشكلٍ أو بآخر، الألم مضخّةُ الحياة ومحرّك الروح الأوّل فيها، إن حدث وعشقت عشقاً شتائياً عمراً مّا، فأنت محظوظٌ جداً لكمّ الذكريات الذي تكتنزه عنكما بعدها بين جنبيك، بغضّ النظر عن النهايات الموجعة التي تصلان إليها.
«شتائيَّيَ» السريّ الأبديّ الزبرجديّ النبيل الجميل، افتقد رؤية الكوفيّة تطوّق العنق والشيب الوقور الكثير، قد كنت جميلاً، جميلاً جداً، كن بخير، كلّ خير لتستمرّ الحياة.
لعلّنا نلتقي شتاءً مّا في حياةٍ مّا، حياةٌ ثانيةٌ نتمنّى أن تُنصفنا فيها الحياة.