مضت أسابيع، جاء العيد ورحل العيد، ولم يكن فيه شيءٌ يشبه العيد، صلّت «نانا» وَدَعت «نانا»، ولا أحد شَعَر بفراغ أفئدتنا سوانا، أوَلَيْسَ كذلك؟
ليلةً تلو ليلةٍ تتأكّدن أنّ ما جرى كان، وأنّ ذاك الرّحيل لم يكن مجرّد كابوس، بل كان أقسى حقيقةٍ شهدتها قلوبكنّ الغضّةُ مذ عَرَفَتْ الحياة.
وداعٌ مفاجئٌ آلمَ كلّ مغتربٍّ في الشّتات يحمل على عاتقه في العمر رسالة؛ تبادلنا التعازي عبر الشبكات كعائلةٍ افتراضية، ننعى من كان ينعى معنا علماء الشّام خلال العام مردّداً في رثاءه: «وما فقد الماضون مثل محمّدٍ» لِيمضيَ بعدهم مثلهم مُضيّ الكرام؛ الموت ألمٌ يقضُّ النّفس البشريّة، قلبي مع كلّ من تفتقد أباً رحل، مررنا بذات الألم منذ أعوام وتلقّينا العزاء من الآباء بأبينا.
تتوالى في الحياة تباعاً اللحظات اللاّتي تتمنّين فيها أن يشارككنّ سناها، لو أنّه حضر مناقشة رسالتي الدكتوراه، مشروعي الأوّل، ثروتي الصغيرة أجنيها، زفافي إلى من اخترته شريك حياة، لو أنّي التقطت له صورةً يحمل فيها أولادي، لو أنّي تمتّعت برؤيتهم يقتسمون حجره ويلتفّون حوله ويملؤون يومه بصوتهم العذب الجميل: «جدّو جدّو يا أجمل جدّ، بنحبّك والله بجدّ، نتمنّى ربّنا يعطيك، عمرين على عمرك ويمدّ».
من الأكثر ألماً؟
تقول الأولى: أنا البكر، عشت معه أكثر؛ تفكّر بينها وبين نفسها الثانية وتقول: أنا بيت أسراره، ربّما أنا أكثر، وتكتفي آخر العنقود ببسمةٍ حزينةٍ وتدعو أن تراه كلّ ليلةٍ في أحلامها وَصمتها وَكَوْنُها كلّه يقول: بل أنا أكثر، فتُسرُّها سرّاً النوارس المحلّقةُ مُصدّقةً مواسيةً: بل أكثر وأكثر وأكثر.
تريْن في مُقتبِل الأيام من الحبّ الحقيقي ما لم تريْن مثله في حياتكنّ، متجسّداً على هيئة دعاءٍ فيه سلوة المشتاق إلى من ينتظر لقياهُ السّرمديّة في جنّات النعيم، لو أنّ الآباء استطاعوا ارسال وصيّةٍ أخيرةٍ لنا بعد الرّحيل لما وصّونا بخيرٍ من وصيّة رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «أمّك ثمّ أمّك ثمّ أمّك».
قرّت العيون بكنّ، جعل الله الأولى حناناً من لدنه غامراً لآخر العنقود، والثانية مشكاة نورٍ لها، والثالثة غنىً لكلتيهما ولو بعد حين.
بوركت أعماركنّ وأعمالكنّ، ورُزقتنّ الخير الكثير والرزق الوفير وكنتنّ خير خلفٍ لخير سلف، رَبط الله على القلوب وجمعها في علييّن.
في أمان الرحمن، “سَلَامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ ۚ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ”.