أيامنا برفقة أطفالنا لحظاتٌ من العمر معدودة، يكبران يوماً مّا، فلا ذاك الأحمد يبقى أحمدي ولا تلك الإيمان تبقى إيماني، ما بين مولدهم وميلاد أولادهم كسائر الأمّهات تتوه منّي الحكمة تارةً وألتقي معها تارات؛ نحاول ما استطعنا أن نحسن التّربية، تحفّنا دعوات جدّاتهم وحكمة أجدادهم، يكبر الطفل بيننا بنصيحةٍ من العمّ وقُبلةٍ من الخالة، وغضباتٍ من الخال ومواساةٍ من العمّة، يكبر ليكتشف أنّه كومٌ من تربياتٍ مجتمعةٍ بعضها مقصودٌ والأكثر لا.
يحاول الوالدان جهدهما أن يعجناه عجنةً خاصّة، معظمنا يطمح أن يربّي الطفل الأمثل في العالم، وما أتعب الطموح.
إنها الاجازة الصيفيّة لعام ألفين وواحدٍ وعشرين، بعد حفلة العالم التنكّرية بالكمامة الزرقاء لمدّة عامٍ ونصف.
كنّا نتسائل ونحتار بتندُّرٍ ظريفٍ صيفاً بعد صيفٍ أين يكون المصيف، يريدها في برلين وتريدها في نيوجيرسي وأنا لسبب مّا أريدها في اشبيليا! وحتّى لا نخسر الروابط الأسريّة ونرضي جميع الأطراف، كنّا نصون جيوبنا وعيوننا ونتّجه لعروس الأردن عمّان والرّضا والحمد كنز قلوبنا.
عمّان الطيبة تصبح حلماً جميلاً هذه الأيّام، نقلّب صور ذكرياتنا فيها، نثرثر مساءً عن أحلام السفرة القادمة، عن الأجر الذي نناله بالامتثال لحديث أم المؤمنين عائشة حين قالت: سألتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عن الطاعونِ، فأخبَرَني: “أنَّه كان عَذابًا يَبعَثُه اللهُ على مَن يَشاءُ، فجعَلَه رَحمةً للمُؤمِنينَ، فليس مِن رَجُلٍ يَقَعَ الطاعونُ فيَمكُثُ في بَيتِه صابِرًا مُحتَسِبًا يَعلَمُ أنَّه لا يُصيبُه إلَّا ما كَتَبَ اللهُ له إلَّا كان له مِثلُ أجْرِ الشَّهيدِ”. أخرجه البخاري.
أحبّ أن يقدّرا نعم الله في أدقّ التّفاصيل، أن يشكراه على الطقس أيّاً كان، أن يبصرا كرمه ولطفه وتدبيره في كلّ تفصيلٍ من تفاصيل الحياة، وأن أتأمّل وأفهم كيف يكبران وكيف يفكّران ويتصرّفان.
كنّا في نزهةٍ نهاريّة في مجمّعٍ تجاريّ، مشينا كثيراً، عبّر أحمدي عن جوعٍ أعرفه، وأعرف أنّنا لن نعود إلى منزلنا قبل أن نقضي حاجاتنا كاملةً، فناولت كلّ واحدٍ منهما ورقةً من ذات الفئة النّقدية وقلت: ليختر كلّ واحدٍ منكما الوجبة التي يرغبُ تناولها وأرجعا لي المتبقّي.
عشر دقائق، وتعود الصبيةُ حاملةً وجبةً صغيرةً لطيفةً على قدر حاجتها بلا مشروبٍ غازيٍّ بلا مقبّلات، ويعود المشاغب محمّلاً بصينيّةِ وجبةٍ من ذوات الأحجام الكبيرة، لم يفته طلب شريحة جبنٍ اضافيّة، يقول بكرمٍ حاتميٍّ لم أتجاوزه له رغم اعتيادي عليه: ماما، جبتها كبيرة منشان ناكل سوا!
أقول لهما: حسناً، وبقيّة النقود؟
تناولني أخته أكثر من نصف المبلغ، ولا يملك فلساً لإعادته.
أستأنف: خذها قاعدةً في الحياة حمودة، إياك وتصنّع الكرم من مالٍ لم يكن مالك حتّى وان كان من والديك وملكاً ليديك، ينبغي لكرمنا أن يكون من حرّ مالنا، لقد فوتت عليك فرصة الاحتفاظ ببقيّة النقود في الحصّالة اليوم.
يهزّ برأسه مبتسماً ويسحب شريحة الطماطم من شطيرته ممتعضاً، يناولها لأخته ويفاوضها على مبادلتها إياها بأيّ شريحةٍ من وجبتها بدلاً منها! يقضم القضمة الأولى ويميل بظهره إلى ظهر الكرسيّ رافعاً الشطيرة متأمّلاً حسنها كعروس، لينطلق لسانه بالحكم الأحمديّة قائلاً: يا الله يا ماما، بيقولوا المال ما بيشتري السعادة، أنا برأيي بيشتري أمّ أمّها كمان!
أبتسم، وأكتم الضحكة للحفاظ على قدرٍ لا بأس به من الهيبة، وأقول بقلبي: ربّما صدقت يا صغير، وصدقت آثار الصلصة حول شفتيك، رغماً عن كلّ الذين قالوا فلسفةً عكس ذلك، صدقت فقد قال لنا ربّ العالمين بين آيات كتابه: “وتحبّون المال حباً جمّاً”.
بقي أن أقول لزوجتك المستقبليّة، هنيئاً لك هذا الوسيم الذّي يحبّ ضرسه كثيراً.