بسم الله الرحمن الرحيم
العم العزيز أبو جهاد حفظه الله
كيفك حالك يا عمو، هل أنت بصحّة جيّدة؟ كيف يبدو الطقس في بورصة هذه الأيّام؟
أتلفّت حولي في الآونة الأخيرة فأجدني على حين غرّةٍ أصبحتُ بعمّرٍ مماثلٍ للعمر الذي كنتَ تدفّ لنا به «الدوّيخة» بإطارٍ أبيضٍ وَ«سماويّ» في حديقة «الفوطة» قرب برج التلفزيون، كم داخَ العمرُ بنا بعدها وما دُخنا بعدُ يا عمّو.
أصبحت حدائق مدينة الرياض أجمل بكثير، غنّاءةٌ بمعنى الكلمة، هذه المدينة أنثىً حقيقيّةٌ مُبهرة، تزدادُ تألقاً وبهاء، نحبّها ونحبّ من يحبّها.
اشتقت لضحكتك كثيراً عمّو، لتلك اللحظة التي تضجّ فيها غرفة ضيوف منزلنا بضحكات الأعمام الرنّانة، تلك الرنّات التي كانت تحلف للأطفال رنّةً بعد رنة بأنّنا سنعود، بأن الغوطة تنتظرنا والشيفونيّة والسنديانة، بأنّ المكاري تفتقدنا، والباعة المتجوّلين، وبسطات المزارعين، وسلتات الجارات، وطرقات الأبواب المفاجئة من الخطّابات، وليالي الأنس في دوما تجمعنا، نلتفّ فيها حول بركة ماءٍ تطفو على سطحها ثلاث بطيخاتٍ مع الأحبّة، والكهرباء في الضيعة مقطوعة، لكنّ شموعنا موقدة، ولا أحد في الكون أسعد منّا البتّة.
كنت في زيارةٍ خاطفةٍ لعائلة العم أبو عمّار الأسبوع الماضي، نتفقّد أخبار العمّ أبو أحمد من زوجة ابنه بعد رحيل الخالة، لماذا تفقد المدن بعض بريقها بهجرة سكّانها رحيلاً بعد رحيل؟
ضحك ليلتها العمّ، فضحك قلبي ألف ضحكةٍ وضحكة لأنّي تذكّرتُ ضحكة أبي، عدتُ طفلةً بلمح لحظة، تستندُ إلى شبّاك سيّارته البيضاء بلوحتها ذات الثلاثة أحرف «ب ط ب» لا تعني شيئاً لكننا لا ننساها كما لا ننسى كثيراً من الذكريات غير المهمّة! يفتح النّافذة ويبتسم وأرتجيه: خلّي الولاد يناموا عنّا، بس هالمرّة الله يخلّيك.
بفضل تلك النّومات تجاوزت طفولتنا بعضاً من غربتها، لولا تصديقكم بأنّها المرّة الأخيرة لما تجرأنا على تكرار الطلب عمراً طويلاً؛ كبرنا يا عمّو، كبرنا كثيراً، فما وجدنا صحبةً يزورون أطفالنا وينامون عندهم من جديد.
مذ رحل والدي وأنا أتأهّبُ للرحيل شيئاً فشيئاُ، ألملم الأشعث من الأحلام والمغبرّ من الأمنيات وأتوق للقاءه كلّ حين.
في الجنّة يا عمّو، أريد أن نجتمع في مدينةٍ تلسعها الشّمس ثانية، أن تزورونا على الفطور والعشاء، أن يضحك الصغار بلا انتهاء، أن أقول لسكّانها أنّ الغربة لم تكن موحشةً تماماً في ظلّ رفقتكم الهنيئة، هنئت بكم مدينتكم الجديدة وسكّانها أجمعون، والملتقى الجنّة.