كان يا ما كان، منذ ستة عشر عام، أشرقت في حياتنا الحفيدة الأولى، سنا ولها من اسمها نصيب.
يبدو الحفيد الأوّل وفير الحظّ على مرّ العصور، ينال من الحبّ والهدايا الخير الكثير.
كائنٌ صغيرٌ جداً لا يتعدّى وزنه كيلوان ونصف، ينقلك نقلةً نوعيّةً من رتبة الأخت إلى رتبة الخالة لأوّل مرّة، يأتي ومعه صلاحيّات تعديل الألقاب في العائلة الأمّ.
يقدُم الحفيد كملاك رحمةٍ في الغربة.
وكأنّه بقدومه الباسم يقول أن لا غربة بعد اليوم يا خالة، عهد الأشواق ولّى، نحنُ نصنع معكم قدراً جديداً سعيداً، جيلكم لم يعرف الخالات والعمّات إلا في الصّور والصيفيّات السنويّة والمكالمات الدوليّة، أمّا جيلنا يتحدّى الغربة من قلب الغربة ونصنع لكم عوائلاً جديدةً ونودّع سويًّة ألم البعد والشوق الذي لا ينتهي.
مثل هذا الحضور المبهج حضرت سنا، حرصتُ زمناً أن أراها ولو دقيقةً كلّ يوم، إلى أن قال والدي رحمه الله قولته الشهيرة: لا تحاولي يا ابنتي، تحول بينكما الأيام يوماً مّا، إنّها سنّة الكون أن لا يدوم لقاء.
صدق والدي، كبرت سنا، وسافرت سنا، وأصبحنا نلتقي بعد عدّ الأشهر بعدما كنّا نلتقي دون أن نعدّ الأيّام.
أيّ وشمٍ ذلك الذي وشم على قلوب المغتربين منذ بدء الخليقة وحتى انتهاء الزمان ؟ من منّا لم يغترب عن وطن ولم يفارق حبيباً ولم يتجرّع غصّات الحنين؟
تقدُم من السفر اليوم سنا، ولا تستطيع أن تراها الخالة.
هذه المرّة ليس لأنّ المدينة لم تستطع جمعنا، إنّما لأن الفيروس حال دون لقائنا، أسمع صوتها ولا أستطيع رؤية بسمتها، كم كان مريراً هذا الحجر، أنت تسمع صوت الأحبّة كل يوم، تستقبل عند عتبة بابك طعام الإفطار عشرة أيّامٍ لا مقطوعاً ولا ممنوعاً، إلاّ أنّ الرؤية محرّمةٌ عليك حتّى اشعارٍ آخر.
لم أكن أدرك تلك الليلة أنّها صلاة التراويح الأخيرة في المسجد هذا العام، والفطور الجماعي الأخير هذا الرمضان، لم أخل يوماً أن أسترق النّظر إلى أمي من بعيد، أن يُحتّم عليّ التفكير في كلّ من تغرّبوا عن أمّهاتهم، أن أردّد كل يوم “وكان فضل الله عليك عظيماً”، وهل أجلُّ من أن تتنعّم برؤيتها كلّ يومٍ بصحّةٍ وعافية؟
هذا العزل المنزليّ لم يكن هيّناً أبداً، كان لابدّ أن أتفكّر في الحكمة منه، أن أراجع نفسي، كيف قُدّر لنا بعد كلّ هذا الحرص والتعقيم والالتزام بالتباعد والقوانين؟
هل كان حقاً بسبب احتضان الطفل عائداً من زيارة؟
لم تعد الإجابة مهمّة، قدّر الله وما شاء فعل.
كان لا بدّ أن أُحبس والأطفال معاً لأسمعهم أكثر، كان لا بدّ أن أتعرّف عليهم من جديد أكثر، إنّهم يكبرون بسرعةٍ دون أن أشعر، لم أدرك أنّهم أصبحوا على هذه الأطوال لولا هذه الأيام.
طفلاي العزيزان، سنا الجميلة، أمّي الحبيبة، وعالمي الافتراضي الأزرق الجميل الذي أختار الأسماء فيه بعنايةٍ فائقةٍ أو أرجو ذلك :
أحبّ من قلبي أن أدعو لكم ولي آخر فجرٍ من رمضان بجنّةٍ عرضها السماوات والأرض أعدّت للمتّقين، أحبّ أن أتفكّر معكم للحظاتٍ في قول الرحمن تعالى: “وحيل بينهم وبين ما يشتهون”.
أسأل الله تعالى أن لا يُحال بيننا وبين ما نحب ومن نحب لا في الدنيا ولا في الآخرة.
في حفظ الرحمن أنتم ومن تحبّون.
مذكرات العزل المنزلي
رمضان 2021