أميري الصّغير وَرَجُليَ المرجوّ العظيم.
أكتبُ هذه الكلمات، وأعرف أنك لن تقرأها الآن، نحنُ نفهم كلمات آبائنا وأمهاتنا بعد أن يرحلوا يا أحمد.
لقد كان الشوق لك مهيباً من قبل أن تُخلق، كُنت وقتها لا أعرف إن كان الرحمن أَذِن بخَلقِكَ في هذه الحياة حتّى، أنا أشتاقُ فقط، لطفلٍ ذَكَر، تحكي خرافات الأمهات السابقات بأنّ بعضهم عند الكبر يكونُ سند. اللهم لا تُحجنا لسندٍ ولا ذرياتنا إلا إليك.
كان الفاصل بينك وبين أختك خمسة أعوام، العام الخامس كان الأطول والأمرّ على الاطلاق، كَوني كلّه وقتها ينتظرك، وحدها الزوايا تعرف، كم أقفلت الأبوابَ وألححتُ بالدّعاء والبكاء خلفها.
وأخيراً، وذات لطفٍ من ألطافِ الرحمن تحدثُ كُن، ويسكنُ الرحم أحمد.
أشرقَ السّعدُ، بل أشرقَ العمرُ بقدوم طفلٍ لا يختلف عن أيّ طفلٍ في الكون، غير أنهُ ابني، ابني أنا، أنا من ستربيه، أنا وحدي من أُكرمت بأن أكون أمّه.
السنواتُ الأولى من عمركم بدت سهلةً رتيبة، طفلٌ مثاليٌّ جميلٌ صحيحٌ نظيفٌ معطّرٌ مُهندمٌ مُهذّب؛ على الأقل خارج البيت وأمام الأقرباء، وما خفي في البيت كان أعظم، لكننا اتفقنا أنّ قاعدة بيتنا الأولى والأخيرة أنّنا لا نتحدّث عن أسرار المنزل، لذا سأكونُ ستراً لك وغطاءً هذه المرّة، كَكُلّ مرّة.
تكبرون، وأمهاتكم تجرّكم معها إلى المدارس، وتعتذر بلباقةٍ عن حضور المجالس النسائية، تختارُ أن لا تعيش بعضَ الحماقاتِ المُمتعةِ أمامكم حتى لا تُطبع في ذاكرتكم الجميلة وذكرياتكم الصغيرة صورةٌ عن الأم اللامُبالية.
كان مُرهقاً أن أنتظر نومكم لفعل هوايةٍ مّا من هوايات الكبار بنعسٍ دونَ أن أضطر للسماح لكم بمرافقتي تجربةَ ما لا يُستحسن لكم تذوّقه صغاراً.
بدل أن تكبروا وأكبر معكم، وجدتني كثيراً مّا أصغرُ إلى عمركم فجأة !
أمكم تحفظُ معكم مشاهداً كاملةً من أفلام ديزني، أمك وأختك تتشاجران كما الأخوات بسبب الملابس المُختلسة بينهما بلا استئذان، كلّما قلتُ لنفسي أنّي سأتّزن وأهدأ، أجدني أقتربُ من عمركما أكثر.
أكتب هذه الكلمات، صباح جمعةٍ جميلٍ ونادرٍ جداً، لا تزقزق العصافير، ولا أتنفسُ الياسمين، أبداً والله، بل أمامي أكوامٌ من غسيل، صحونٌ وأكوابٌ وقدورٌ مبعثرةٌ في المطبخ.
وثلاجةٌ تتحداني ككلّ جمعة: هل ستطبخين اليوم يا أمّ أحمد؟
اسمع أيها الصّغير، والله إنّي أنتظر زواجك بفارغ الصبر!
أُريد أن أعرف، هل ستجرؤ على سؤالها كل ساعة: ماذا سنتناول على الغداء؟ هل حان وقت العشاء.
لا أعرف لماذا وُلدتَ تحسبُني مطعماً مُتنقلاً متجدداً ناجحاً عامراً لأربعٍ وعشرين ساعة سبعةَ أيامٍ في الاسبوع، ثلاثين يوماً في الشهر.
هل تعرف لماذا أكتب لك؟
لقد تسللتُ بالأمسِ للنومِ باكراً، تاركةً بكلّ فخرٍ خلفي منزلاً تعمّه الفوضى، كي لا أفكر بشئٍ حتى الصباح، بأيّ شئ، أيّ شئ.
لكنك لا تسمح لي بتلك المُتعة غير المشروعة في دنيا الأمهات يا ولدي!
بعدما تعانقَ العقربان، من تحت بطانيةٍ دافئةٍ ليلةَ شتاءٍ مَضت، بهدوءٍ مُريبٍ فتحتُ عينيّ واحد مليميتر ونصف، كنتُ أريد أن أتأكّد بأنكم نمتم، لأقوم ساعةً كَطُيورِ الظلامِ وأجرّب حريّتي التي نسيتها منذ جئتم، ساعةً من الليل أشعر فيها أني حرّة، أني فرّاشة.
حتى الفراشاتُ قهقهت من حُلمي المستحيل للحظة.
كنتَ سريعاً، قفزت من سريرك نحوي، وكأنّ شعاع حُبٍ فضحني من ذلك المليمتر ونصف كالعادة، أصاب قلبك، وأنار عتمة ليلك.
تحتضنني: ماما نسينا عناق ما قبل النوم البارحة.
وتستدركُ بدهاء: ماما لو استيقظت قبلك غداً ماذا سأفطر؟