كان يوماً حافلاً طويلاً.
بدأ هذا اليوم، باستيقاظٍ متأخرٍ نسبياً بسبب السهر، بسبب الشاي، بسببي أنا.
وبدأ بمفتاح السيارةِ يضيع للمرّة الألف، بشوكولاته ساخنةٍ أشربها للمرّة التسعمائة، بجوّالي ينتهي شحنه من أوّل النّهار لأنّي لا أرتاح لشحن الأجهزة بالليل، بشاحنِ المحمول أكتشفُ أنّي نسيتهُ بالمنزل، فأعرفُ أنّ هذا اليوم ليس يوم حظّي بالتّأكيد.
وبسائقِ السيارة الحمراء على الطريق السّريع يستفزني، يريدُ أن يتجاوزني وأنا لا أرغب أن يسبقني أحدٌ حتى لو اضطررت لأخذِ مخالفة.
ثمّ، يبدأُ يومي بدايتهُ القويّة، بطبقٍ ينكسرُ على عجلٍ ناثراً على أرض المطبخ كلّ ما فيه، وبكأسَي العصير مسكوبينِ معاً على طاولةِ الدّراسة، جعلا الأقلام والألوان والأوراق منكّهةً بالأناناس، وجعلا المعلّمة تخرجُ عن طورها أخيراً على فرضِ أنّ المعلمات لهنّ طورٌ رزينٌ ثابتٌ دوماً.
لا أعرفُ كيف يستطيعُ بعضُ التلاميذِ استفزازنا لتلك الدّرجة، يمتحنُ صبري رغمَ ثلاثين عامٍا تفصلُ بيننا، يوجّهني أكثر ممّا ينبغي دون أن يدري، يعلّمني بالمواقفِ أكثر مما أعلمه بالكلام.
تجمعنا علاقةُ الأضدادِ بجدارة، لغةً وموطناً وهجرةً وعمراً وثقافةً ووجهةً، ذكراً وأنثى، وطبيعةَ حياة.
غير أننا نعترفُ سراً أنّا قد نحبُّ أولئك الذين يستطيعون إخراج أسوأ ما فينا منّا، حتى يشعّ كلّ نورٍ عظيمٍ منّا.
حقيقةً، أحبُّه كثيراً.
إبتداء من لحظة لقائي الأولى به، حملهِ بين ذراعيّ وليداً صغيراً لا حول له ولا قوة، حتى تحمّلهِ مشاغباً كبيراً بكلّ عزمٍ وإرادةٍ منقطعة النّظيرِ، وقوّة.
أحبُّ قدرتهُ على معرفتي أكثرَ منّي، كيف لطفلٍ أن يتعلّم رشوةَ الحبّ؟ لا أعلم.
يبدو أنها مهارةٌ عند الذّكور منذ بدءِ الخليقة، نفسُ المهارةِ يتقنها المشاغبُ خاصّتي في المنزل، فنُّ “معاكسةِ” الأمهات يُقلقني، القدرةُ على أن تتغزّل بمعلمتكَ في أشدّ اللحظاتِ توتّراً بكلمتينِ تعرفُ أنتَ وهيَ أنّ طلباً مادياً مدوياً سيحدثُ بعد تلكم الكلمات تبدو رهيبة.
هذا المشاغبُ الدّافئُ يجعلني أتمنى أن تستمرّ الجامعات إلى زمن جامعته عن بعد.
أظنُّ أنّ معسولَ اللّسان هذا لا يناسبُ الحرم الجامعيّ أبداً، لن أحتملَ سماع قصّةٍ واحدةٍ عن مغامراته لاحقاً، ولكنّه سيحدث، لأنّ عجلةَ الزّمن تدورُ بلا توقّف، ربّما لا تدهس، إنّما تكرّر الأيامُ لردّ الديون وتصفيةِ الحسابات فقط.
وتلميذي “حبّيبٌ” من الدرجةِ الأولى، ينتقي العطورَ والمرطباتِ والألوانَ وتصفيفاتِ الشّعر ويشاركني أدقّ تفاصيلِ يومنا أيضاً تمام موعدِ قيلولة العصر التي يسردُ أثنائها لي في غرفته على سريرهِ الصّغير تحتَ غطائه الأزرق الجميل عشراتَ الحكايا والأمنياتِ بدلَ أن أحكيها أنا له.
كان يوماً جميلاً لكنّ في القلب الكثير.
كان التلميذ الوسيمُ متحمساً للغاية لهذا اليوم، لديهم فعاليةٌ أونلاين يتطلّعُ شوقاً لدقائقها، وكنتُ أشاركهُ هذا الترقّب بشوقٍ مماثلٍ أيضاِ.
طفلٌ فلسطينيٌ كنديٌ في المرحلة الابتدائية، غير ناطقٍ إلا بقليلٍ من العربية، يدرس في المدرسة البريطانية العالمية، أتابعهُ في حضور دروس منصّته التعليمية صباحاً، وأُذهلُ من نظام المدرسة الفخمِ وتفاني المعلمات والمعلمين فيها حقيقةً.
للحظةٍ مّا، كنتُ أحدّثُ نفسي أنّ هذا المتوقع من مدرسةٍ قسطُ المرحلة الابتدائية فيها بالعام الواحد يُعادل قسط غيرها لأعوامِ الابتدائية الستةِ كاملةً ويزيد، لكنّ الحقيقةَ لم تكن كذلك.
كان ذلك المخدّرُ الموضعي العربي الأسرعَ والأنجعَ الذي نستخدمهُ دوماً لنطبطبَ على خيباتنا ونتابع تشكّينا على مرّ الزّمان دون مللٍ دون كللٍ دونَ خطوةِ تغييرٍ ملموسةٍ تبدؤ منّا ومنها بعزيمتنا وإرادتنا ورؤيتنا نستمر.
يُعجبني أن مدرسته تحترمُ عمرَ المعلم وخبرته جداً، من نظرةِ الأنثى للأنثى التي لا تخطئ، أجزمُ أنّ معلمة الصفّ تجاوزت الخامسة والستين من العمر.
أنا معلمةُ الظلّ المسلمةُ المحجبةُ التي لا تراها وتعلم بوجودها معها يومياً خلف الشاشة يخطفُ قلبي لطفها وهدوءها وحزمها ومتابعتها للأطفال بأسمائهم بتفاصيلِ يومهم لحظةً بلحظة.
أحبُّ قدرتها على التركيز مع أطفالِ تعليمِ الأونلاين مغلوبين على أمرهم، يتابعون من بيوتهم، يستأذنون، يسألون، يكتبون، يأكلون، يضحكون، يتواصلون، من نفس البقعةِ في المنزل دون حراك، كان الله في عوننا وعونهم إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً، الحمد لله على نعمة وجود هذه الطريقةِ في التعليم لضمان حقّ الطفل وإن كانت تعتبرُ تحدّيا حقيقياً بمعنى الكلمة.
تتحركُ المعلّمة بخفّةٍ في صفّنا أمام السبورة، تكتبُ لنا الحلولَ وتشرح المسائل، يكتبون معها، يرفعون الدفاتر أمام الكاميرات لتقرّبها من نظّارتها وتُشاهدها!
يشاركون شاشات الآيبادات، ويستخدمون الأقلام الذّكية لسرعة الكتابة عليها.
والمعلمة الستينيّة تتابع بسرعةٍ مذهلةٍ رائعة، وأنا أتذكر على مضضٍ كثيراً من المدارس الأهلية تشترطُ أثناء التقديم على عملٍ خريّجاتٍ جدد، وأعماراً معينة، كأنّك تخطب وظيفةً، لا تصنعُ مجداً لك وللتلميذ.
معلمتنا الجميلة بأعوامها الأجمل، تظهرُ على الشاشة، بخصلاتٍ ناعمة، بشعرٍ قصيرٍ مصبوغٍ إن صحَّ القول وجازَ الوصفُ: هفهاف.
بأظافرَ مطليةٍ بألوانٍ هادئة، بخاتمٍ لطيفٍ جميل، وقلادةٍ ناعمةٍ ألطف.
أنثى حتى النّهاية، لا تلتفتُ إلى التجاعيدِ وتنساها حين تسمعها تغني للأطفال يوم ميلاد أحدهم بصوتٍ رخيمٍ دافئ حنون، وتشجيعاً لآخرٍ مُتأخّرٍ لم ينهِ موضوع التعبير قبل أن ينتهي الدوام.
لن أشرحَ تفاصيلَ حصّة الرياضةِ التي يقومِ فيها على رأسهم أستاذٌ ومعلمتان يحترمانِ أطفال المسلمين، ينبّهون على ضرورةِ الانتباه أثناء فتح الكاميرا للّعبِ لعدمِ كشف زاويةٍ في المنزل قد تمرُّ منها الأمُّ أثناء تواجد المدرّس، بل وينبّهون بلطفٍ مباشرةً إن سقطَ ذلك سهواً.
يضحكُ طفلي الجميل، وكأنّه في المدرسة فعلاً، إحدى المعلمتين وظيفتها التركيزِ أنّ الطفل يلعبُ في مساحةٍ واسعةٍ من المنزل لا يرتطم فيها بشيء يؤذي فيه نفسه أو بيته.
عليك أن تركّز عبر الشاشةِ على جميعِ أطفالِ الصّف، هل هم بخير؟ هل أحافظُ على أمنهم وأمانهم عن بُعدٍ إن لم ينتبهوا هم لذلك، بل إنها تركّز إن كان يلبسِ جورباً أو لا أثناء لعب الكرة معها عن بعد.
تحترمه وتسألُ عنه كما لو أنه أمامها في الصف تماماً، عدم وجودي بقربك فيزيائياً لا علاقة له بقدرتي على التواصل معك عن طريق السمع والبصر والصوت والكتابة المباشرة والرسالة.
لن أعقد المقارنات بين المدارس الحكومية والأهلية والعالمية والعالمية الأجنبية الآن، عقدنا ذلك تريليار مرة.
أنا فقط، أريد أن أحكي لكم عن تلك الفعالية، عن احترام عقل الطفل، عقل الإنسان، عن معاملته على أنه فردٌ مستقل، بحجم صغير وعقل فريد بقدراتٍ لا محدودة بل ومذهلةٍ أيضاً.
انتظرنا هذا اليوم معاً بفارغ الصبر.
تستضيف المدرسة عن بعد أيضاً الكاتب Ross Welford.
روس فيلفورد: كان صحفياً ومنتجاً تلفزيونياً قبل أن يصبح كاتباً متفرغاً.
باع أكثر من 100 ألف نسخة عام 2018 فقط، من كتابه: “السفر عبر الزمن مع الهامستر”.
كتاب للأطفال، حصد عدد من الجوائز الأدبية، إضافة إلى جوائز أخرى تم ترشيحه لها، الكتاب موجه لشريحة الطلاب في المرحلة الابتدائية.
أحببت طريقته اللطيفة صباحاً في التعامل مع صغارنا، أجوبته المدروسةَ على أسئلتهم، كان يعامل كلّ سؤالٍ كما لو أنه موجّه من مؤلفٍ عظيم لمؤلفٍ أعظم، كان متواضعاً لطيفاً جداً ونحنُ نحظى بالتقاط صور السيلفي الرقمية معه، حظيت بواحدةٍ بلا حجاب! لقدرتي على رؤيته وعدم قدرته على رؤيتي، وأنا أضحك ملء قلبي لعالم الشبكات كيف قرب البعيد وسهل الصعب وحقق المستحيل، جميل جميل.
بدا مهتماً، والاهتمام فنٌ وسحرٌ ولطفٌ وبراعة.
وكأنّ الكتابة الإبداعيّة هي الجزء الذي لا يتجزأ من حياتك، هي الحاسةُ السادسة التي لا بد لكلّ طفلٍ في الكون أن يتعلّمها لأنه سيحتاج لها دائماً وأبداً خلال مراحل حياته.
ستكتبُ حين تغضب، حين تحزن، حين تمرض، حين تريد أن تبوح سراً، حين تخطئ، حين تنحرف، حين تضيع، حين لا تفهم، وحين تفهم، حين تحب للمرة الأولى، وحين تتهور وتعشق للمرة الثانية، حين تشتاق، حين تندم، حين تعاتب من تحب، حين تتشاجر معه، وحين تصالحه، حين تصبح أباً، حين تخاصم صديقاً، حين تفارق عزيزاً، حين تنعى، حين تتفوق بامتحانات الثانوية العامة، حين تستلم شهادة البكالوريوس، وحين ترفع رسالة الماجستير، وحين تحضّر للدكتوراه، حين تُسافر، ويوم تعود، يوم تشتاق أمك، ويوم تدفن أباك، أنت تكتب كل حين وحين، نكتب حتى النهاية يا صديق.
تكتب دائماً وأبداً، ستكتب بشكلٍ أو بآخر، شئت أم أبيت، تكتب لترتاح، وأكتب لأرتاح، ونكتب الرسائل عسى أن تصل الرسائل، نكتب الكلمات سلاماً ولطفاً نرسل فيها فكرةً عسى أن تلمس القلوب بأدب، وتتكئ في العقول أيضاً.
حصص التعبير باللغة الانجليزية كانت رائعة ومفيدةً بمعنى الكلمة، تذهلني التعابير المُبهجةُ اللذيذة التي يكتبها أطفال التسع سنوات، والتي لم تخطر على بالنا من قبل قط، لديهم خيالٌ خصبٌ وذاكرةٌ مشرقةٌ نظيفةٌ عطرة.
أشعر بشيء من ألمٍ دفينٍ لعدم تقدير المواهب دوماً عند الطفل ومتابعتها باهتمام، لا أدري هل كانت المشكلة في كونِ المعلم لا يدرك أهمّية ما يعلمه، أو لأن بعضهم يعلّم تلاميذه بالقطاّرة على قدر الراتب الذي يتلقاه، والمعلومات تشحُّ منه يفضّلُ حشرها في عنق الزجاجة على أن يغمرهم كرماً بها، فلا يؤمن أن هذا الطفل الضعيف اليوم يصبح قوياً غداً بالعلم والموهبة والجدّ والاجتهاد ويقود أمةً من بعد هذا التعليم إن عُلّم بطريقة احترافية.
أعترف أني تعلمت الكثير مع بِشرِ عمري الجميل، أتأمل ملامحه طويلاً، أعرف أني لن أتحجب منه يوماً مهما كبر، ببساطة، لأننا نكبر معاً. أشتاق يوم زفافه مستقبلاٌ، وأحب ضحكاتنا وذكرياتنا وشجاراتنا ورسائلنا وأسرارنا، وذكريات فطورنا وجنوننا ولعبنا وحفظنا وغدائنا ولعبنا مع القطط، وكتابتنا للرسائل والتقاطنا للصور وتحدثنا طويلاً معاً عن سيارات أحلامنا، ونقاشنا اللامنتهي حول أمورٍ متنوعةٍ في الحياة وبعد الحياة!
لن أنسى الصباحات تبدأ معه كأحلى ما تكون، استقباله منتفخ الجفنين، سلامه عليّ، ووداعه لي مقطّب الحاجبين، ولهجته المكسّرة تقول لي: “دير بالك ع حالك أشوفك بكرة” كل مساء، أستودعه حجرةً في قلبي كما ابني تماماً، وأضحك وهو يوصيني أن أردّ على مكالمته المرئية حال وصولي للمنزل، ويسألني إن كنت تصفحت جميع محتويات البريد الإلكتروني التي أرسلها البارحة، ويُرسل الجديد الليلة.
أفاجئه اليوم، بالقبلة الأولى والأخيرة، أسرقها منه على عجلٍ لحظة وداعنا عند الباب وأمضي، يبتسم، ويفهم أن معلّمته تروقها سرقة القبلات.
أمضي وقلبي يخفق له وعائلته، أحبه من صميم قلبي، وأنا إن أحببتُ أحداً أختصّه بالدعاء، أدعو الله أن يبارك الرزق لكلّ معلم ومعلمة أدّى الأمانة وعمل على وصول الرسالة، وقدّر قيمة عمله، وتطلع لرؤية نتائجه ولو بعد حين.
ثمَّ ماذا؟
ثمَّ إنَّ الصباحَ مع صاحبِ الظلِّ الطويلِ أسرَّ سرّاً
ثمَّ أنه كان اسماً على مُسمّى
نوراً لمن سمّوهُ بِشراً