إنها التاسعة صباحاً، سبتٌ آخرٌ لا نسبتُ فيه!
يفترضُ بنهايةِ الأسبوع أن تُرتّب أكثر، وتقسّم كالتالي:
اليوم الأول راحةً واسترخاء ولملمةً لشتات الروح، والثاني تنظيماً وأخذاً بالأسبابِ المعينةِ لبدءِ أسبوعٍ جديدٍ مُتوهّج حافلٍ بالإنجازات الصغيرة على طريق الحلم الكبير.
كتبتُ “يُفترض” لأننا لا نُطبّقُ كثيراً من الفرضيّات.
يرنّ منبّه الأم، بالتأكيد ليس منبّه الاستيقاظ، منبّهاتٌ جديدةٌ لطيفةٌ على جوّالي اليوم، محاضرة “مدخل إلى اللغة العربية” تمام الساعة التاسعة، تليها تمام العاشرة، محاضرة “علم النحو”.
هذا ما حدث أخيراً، لقد فعلت الكورونا فعلتها السحريّة، غلّقت الأبواب وقالت للتعليم عن بعدٍ: هيتَ لك.
لأسجّل على حين صحوةٍ في الجامعة لحاجةٍ في نفس يعقوب.
تبدأ المحاضرة، تقفُ ابنتي ضاحكةً عند باب غرفتي، تضحك ضحكةَ تصفيةِ الحسابات، تتقمصُ نظرتي لها آلاف المرات بطرفِ عينها وتقولُ: هيّا شاركي معهم يا ماما، “ما عندنا أمهات ما بتشارك”.
يُنادي المُحاضر أسماءنا اسما اسما في اللقاء التعريفي، يسألنا عن مواقعنا الجغرافية، وفرق التوقيت بيننا وبينه، كان جميلاً أن يجمعنا طلب العلم حول العالم عبر منصة الزوم، بعضنا ليله نهارُ الآخر.
يسألنا عمّا درسنا من قبل وما قرأنا وما أنجزنا وبم عملنا حتى هذا اليوم في حيواتنا وماذا ننوي أن نعمل بعد، ثمّ يصلُ الدور لحرف الشين ويا ليته ما وصل.
يصلُ لإسمي، وكأنه من خلف الشاشات يصل إليّ!
ينادي فأبتسم، ويتورّد الخدّان خجلاً من الردّ لأوّل مرّة، لا أستطيع كتم المايك ولا وضع السّماعة، أسمعه، ويسمعه معي ثلاثون حول العالم،
: “تفضلي وعرّفي عن نفسك”.
لقد عرّف عن أنفسهم عشرة رجالٍ قبلي، لا أظنّ أن صوتي مستعدٌ بعد.
ينادي ثانيةً: “شفاء موجودة؟”
وأنا في ذلك الجزء من الثانية بالتحديد، أتذكّر بحّةَ صوتِ الأم الجهور الغاضب، وأستجمع قوتي وأسمّي بالرحمن وأعرّف عنّي تعريفاً تفاجأتُ بعده أن تلك التي عرّفتُ عنها كانت أنا!
لقد تعرّفتُ على نفسي معهم بالصدفة.
انتهى ذلك الصباح الحييُّ الجميل، وانتهى التعريف وتلاشى خجلُ المرّة الأولى، لتبدأ رحلةٌ جديدةٌ جميلةٌ في العمر الذي يستحقُّ منّا اجتهاداً وسعياًدؤوباً، أثناء المرور عليه لمغادرته،كما ينبغي للخليفة القويّ في الأرض أن يكون.
الدكتور العزيز:
أنا لم أستطع أن أتجاوز سؤالك الأول لي البارحة: عرّفي عن نفسك؟
نعم، لا أحد أفضل منّا للتعريف عن أنفسنا، وكتابة السيرة الذاتية لحياتنا.
لا أحد يفهم كيف للشيطان والملاك أن يندمجا معاً بقوةٍ خارقةٍ ليشكّلا هذا الإنسان الفريد، ليتصارعا دوماً، فنُساعد الذي تميلُ إليه نفوسنا كي يصرع الآخر، لنبدو على الصورة البشرية الأخيرة التي يرانا عليها الناس بأبهى حلّة.
نُعرّف عن أنفسنا كل لحظةٍ بالحياة، بطُرقٍ وأماكن مختلفة، نبغي تعريفاً لم نصله بعد، وندعو الله أن نصل جميعاً إلى تعريفٍ يكون قرّة لعيوننا، وأن يبارك الله أعمارنا بتوفيقه ورضاه.
لقد كان صباحي السعيد، أصغرُ فيه عشرين عاماً ويعود بي الزمان إلى الجامعة الأردنية.
يعود بي إلى مصلّى كلية الصيدلة، إلى الدرجات الجميلة، إلى الدكاترة والأساتذة والمعيدين والطالبات عددهم أكثر بكثير من الطلاب، إلى زاويةٍ يجلس عندها شابٌ وصبيّة، إلى الشجرات و”الكولرات” و”اللكرات” والممرات.
إلى بريد المصلى وسجّادة، وديمة تضمّني الضمة تردّ عليّ غربتي، وصفاء لا تفلتُ كفّي، فتاةً عمرها سبعة عشر عامٍ تنضم للكلية كأصغر طالبةٍ في الدفعة، إلى ياسمين، تضحكُ من “المُوسِ” السويسريّ الأحمرِ الذي أعلقه في ميدالية مفاتيحي لأحمي نفسي! إلى ربى تحكي لنا عن القراءة وكأس الشاي، إلى بشرى، نوراً وعطراً وحباً وسلاماً لا ينتهي ما انتهت اللقاءات، ما انقضت سنوات الدراسة، ما شققنا طرقاتنا المختلفة في الحياة، إلى سوزان ونور وهديل، وإلى اللواتي لا أنسى أسمائهن.
كانت المدرجات جميلة، الركض بين الكليات أجمل، الوقوف على الدور في الكافيتيريا لأجل فطيرةٍ مريبةٍ لو دُفعت لي أموال الدنيا اليوم لأقضم منها قضمةً واحدةً ما فعلت ولو كنت أتضوّرُ جوعاً.
أنا أقسمُ أن فيروس كوفيد 19، والمتحور منه أيضاً، لا يجرؤ على النظر في عينيّ من قاموا بتسخين فطائر القشقوان على تلك السّخانة المغبرّة تحتفظ بها الكافيتيريا من زمن قريش غالباً!
كانت المظاهرات الطلابية رائعة، والغاز المسيل للدموع لتفرقتها كان تجربةً لا تنسى.
كان “مهداوي” جميلاً، وكانت نظرتها إليه أجمل، وهي تنشدُ لفردةِ حذاءه الطائرة غضباً على رفع الرسوم الجامعية: “حذاء مهداوي حلّق حلّق، بالجناحين وصفّق، صفّق صفّق”.
لم يسمعها يوماً، لم يرها، لكنّ الصديقات سمعوها تُدندنُ له ضاحكةً ضحكات الأطفال بلا توقف.
ثمّ مرّت عشرون عام، فأرسلوا لها صورته متألقاً بالشيب، لتُغنّي لهُ هذه المرّة رزينةً أغنية فيروز: “كيفك، قال عم بيقولوا صار عندك ولاد”!
تقول جميلتي جوجو على مائدة العشاء البارحة، _ستّ سنوات_
= “من زمااان! لمّا كنت أروح عالمدرسة!”
وأنا لا أسمعُ كلمةً بعدها من وجع العبارة.
الطفلةُ تشتاقُ الأطفال، والأمّهات حول العالم تُقسمنَ كلّ يومٍ أن شوقي صدقَ كما لم يصدق شاعرٌ مثله قط، نعم يا شوقي: كاد المعلّم أن يكون رسولاً، شكراً أيها الرسول، معلّم ابتدائية، أو دكتور جامعة، شكراً للصبر علينا، لتفهّمنا وتفهّم حالنا الصّعب في التعامل مع التعلّم عن بعد، لم ننسَ فضلك سابقاً، ولا ننساه بعد اليوم ما حيينا.
اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء، وتنزع الملك ممن تشاء، وتعز من تشاء، وتذل من تشاء، اللهم آتنا الصحّة بعد السقم، وانزع عنا البلاء والوباء، اللهم اعف عنّا وعافنا، اللهم إن عافيتك أوسع لنا، فإن لم يكن بك غضبٌ علينا فلا نبالي.
اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا.
أعماركم علمٌ يُنتفع به، دمتم بحفظ الرحمن.
رابط المقال في مجلّة عود النّد:
http://www.oudnad.net/spip.php?article3526