كيف حالكِ ذات النّورين؟
هل تذكرين بدايةَ الحكاية؟ وشرارةَ اندلاعِ المعركة، يومَ أحرقت المعادلات جميعاً، واتخذتِ قرارك الحياتيّ الحاسم دون أخذِ إذن من أحد:
بالتأكيد لم تكوني هائمة على وجهك، بل كان النُّور يشعُّ منك على كلّ مكان وزمان، عاجلكِ القدر وابتسم لكِ، بسمةً لم تعرفيها من قبل، بسمةَ إيمان بك وباسمك وبعزمك.
بسمةَ نصرةٍ وتمكينٍ لمعتقدك، كنتِ يومها قويّةً وكأنّ القوّةَ لم تُخلَق لأحد سواكِ:
فما بالكِ اليومَ تنطفئين؟ ما عهدتكِ هشّةً كذلك.
لقد كنتِ على علمٍ تامٍ ويقينٍ مطلقٍ أنّ كلّ ألمٍ يأتي لاحقاً لا ذِكرَ له في حضرةِ ما واجهته سابقاً، فما بالكِ تتصدّعين؟
اثبت أُحد! اثبت أُحد.
كلُّ الصِّعابِ تُذلَّلُ لكِ بمددٍ من الله، كلُّ الطُّرقِ تُمهَّد، كلُّ الأبواب تُفتَح، وكلُّ الدّعواتِ تُستجاب.
هل تذكرين؟!
ذلك الحزمَ في الصوت، تلك النظرةَ الثاقبةَ الواسعةَ الواثقةَ اللامعةَ بعيدة المدى، تلك العزيمة والإرادة؛ لا بأس عليك، وسلامٌ على قلبك الجميل، على روحك، وعلى عينيك.
وعلى أمومتك روحٌ وريحانٌ وجنّةُ نعيمٍ لكلِّ كبوةٍ على طريقكِ الطّويل السّريع.
هوّني عليك، لستِ وحدك، كوني قويّة، فمقامك حيث أقامك، أنتِ الخليفةُ في الأرض.
هؤلاء الصّغار بشغبهم وصخبهم ضيوفٌ في بيتكِ أياماً معدودات فأحسني ضيافة الضيف العجول، وهذه الأيام بفوضاها قريباً تغدو مجرّد ذكريات نتمنّى أن تعود ولا تعود، فلكِ شرفُ الجهادِ وأجرُ الاعتكاف والاحتساب، وعزُّ المرابطةِ على الثُّغور، وأنتِ على ثغرٍ اليوم مع طفلين!
أنتِ الرّاعي وهما الرّعية، وكفى بالمرءِ إثماً أن يضيِّعَ من يعول، تذكّري ذلكَ كلَّ يومٍ وكلَّ لحظة.
أدرك تماماً حاجتكِ للهرب ولو يوماً الى اللامسؤولية، للإنسلاخِ من تلك الضغوط قليلاً.
أممٌ من الأمهات حول العالم مثلك، لكلِّ منهن قصةٌ فريدةٌ وحكاية.
جميعنا نفقدُ بريقنا أحياناً، ننطوي على أنفسنا، نرغبُ بالهربِ من كلِّ شيء الى اللا شيء، نتمنى للحظةٍ أن تنعدمَ الواجباتُ والهمومُ والمسؤوليات، نحتاجُ الى جزيرةٍ نائية جداً تحتضنُ أفكارنا وتطلُّعاتنا وتسمع مخاوفنا وأمنياتنا أربعة أيام لا أكثر، الأربعة تكفي وتزيد.
الأمهات، تستطعن قراءةَ ما أعني بين السطور بوضوحٍ تام، وتتفهمنَ مقصدي أكثر مني، فلعلّ أضعف الايمان أن نتبادل في ظهر الغيب الدّعاء.
لسنا مثاليات، نملُّ أحياناِ، نضطرب كثيراً، لا نستطيع أن نكون خارقاتٍ دوماً، كلما هممنا بالركض ركضت الحياةُ لتُسابقنا!
لا شيء يتوقّف، البيتُ والأطفال في حالة غليانٍ دائم، تبدو الحياةُ بين العشرين والخمسين ربيعاً عربياً! وثورةً لا نهايةَ لها!
كلّ يومٍ تقولين لنفسك: ربّما اليوم هو يوم السلام، ولا سلام!
بل ماراثونٌ لا ينتهي، بين حياتك وحياتهم، وتتسائلين: كيف تستطيعُ هذهِ الوسادةُ تحمُّل رأسي المثقل بعشرات الأسئلة الصاخبة ليلةً بعد ليلة، هل أنا أمٌ جيّدةٌ حقاً؟ أحاولُ أحياناً، أفشلُ كثيراً، ولكن: أمٌ مثالية، لا أظنّ!
في مثلِ هذا اليوم، أتأمل المشهدَ حولي بشيء من غضبٍ كثير، البيتُ الذّي لن يلمعَ بلا جهدٍ مجدولٍ مستمر، ومنصّةُ المدرسةِ عن بعدٍ، لا أنجو من اتصالات أساتذة إبني أثنائها متابعةً وتنبيهاً! ابن لم أقف على رأسه رغم أنفي جنديةً مجهولةً خلف الشاشة مضطرةً لسماع شرح الدروس ومشاركة الطلاب وثرثرتهم في قعر داري! وأتأمل المطبخُ الذي نقضي فيه عُشر حياتنا نتفنّنُ ويتفنّنُ، مع أن الاسباغيتي بأنواعها تفي بالغرض وزيادة، ولن نموتُ إن اكتفينا بها.
أتأمل الخيوطُ والخرز والكتبُ المبعثرة والنصوص المبتورةُ وأنصاف الحرفِ اليدويةِ والهواياتِ التي لم تكتمل ولا تكتمل بسهولةٍ ما دمتِ أماً تُقاطعُ في السّاعةِ أكثر من مرّة بأكثر من طريقة وهذا الوقتُ سوف يمضي، هكذا يقولون!
يكبرُ الصّغار، ونقطفُ الثّمار، والى أن يكبروا بكرم الرحمن، سنمرُّ بألف يومٍ عصيبٍ مثلَ هذا اليوم، سلّمهم الله لنا وسلّمنا لهم.
تعلّمنا برفقتهم أنّ زينةَ الحياةِ الدّنيا لا تأتي على طبقٍ من ذهب، وأننا لا نملكُ مالاً بلا تعب، ولا نُكرَمِ بوالديّةٍ عظيمةٍ تُرفعُ لها القُبّعاتُ في الأرض وتُكتبُ لها الأجور في السماء ما لم نحاول مراراً وتكراراً أن نكونَ كلَّ ساعةٍ قدوةً أفضل لهم، قدوةً تمثل الإحسان في كلّ تفصيلٍ مهما صغر من تفاصيل الحياة.
نحنُ نهذِّبُ أنفسنا أثناء تهذيبهم، نكبرُ معهم، وقد نكبرُ منهم.
بقي أن أقول:
كم مرّةٍ في العمرِ أتيتهُ ظمآناً تدعو رحمةً من السماء فردّ قلبك عليك هنيئاً مريئاً ريّاناً بنبعِ رحماتٍ وهناء؟
الدُّعاء ليس شيفرةً سحريّة تتحقق ما بين اللهمّ وآمين.
إنّه إعلان عملٍ جادٍ وأخذٌ بالأسباب يؤمن بالاستجابة ولو بعد حين.