كان يا ما كان، على مرّ الزّمان، ترقدُ الملاكُ على سريرها الأبيض رقدتها الأخيرة، إنه آذار من عام 2062 بعد الميلاد، لقد بلغت الثّمانين ولم تنسَ لمّة أسرتها الصغيرة حول مائدة الطعام جَمالَ عُمرٍ مضى، تُفارق الحياة ولم تفارق روحها أرواح أبنائها المغتربين لحظة.
كُتِبَ علينا الشّتات ذات هجرة، خرجنا من ديارنا وأموالنا وأهلينا، وبقيت قلوب الأمهات تنادينا بأعلى الشّوقٍ عبر القارّات: وا كبداه، وما من كبدٍ يسمع؛ كُنّا نركض نحو الرزق في غرباتنا ركضاً عطّل الحواسّ الخمس، ولم يبق لنا إلا الحاسّة السادسة تنخرُ حنيننا بين فترة وأُخرى.
الأم كائنٌ وجوديٌّ جماليٌّ لا حُبًّ في الكون مثل حبّه مهما تسابقت السنون.
تنامُ المُدُنُ الجميلة كلّ مساء، وتفارقُ الأرواحُ الأجسادَ إلى السّماء حتى يحينَ موعدُ إستيقاظها وإحياءُ الرَّحمن لأصحابها بعدَ موتٍ وإليهِ النُّشور.
فهذا ينامُ في القاهرةِ وقلبهُ في الشّآم، وتلكَ تنامُ في الرّياضِ وقلبها في عَمّان، ولا مُغتربَ ينامُ ليلةً هنيئةً مريئةً مُكتملَةَ التّوليفةِ بينَ الجسدِ والرُّوح، جميعُنا ننفصِلُ مُباشرةً مع أوّلِ غفوة، وتُهاجرُ أرواحُنا بسرعةِ ماردٍ لعناقِ أرواحِ أمهاتنا في أقاصي البلاد، أو ربّما عند أبواب الجِنان.
الأمُّ جبّارةٌ صبّارة ٌفطنةٌ نبيهةٌ قادرةٌ على توجيهِ رُوحها مستيقظةً ونائمةً شطرَ القبلةِ التّي تُريد، تُعطّرها جيداً قبلَ المنام، تسألها أن تعرجَ إلى الأبناء وتزاحمهُم أطرافَ الأسرّة، تمسحُ لمسةً حانيةً على تجاعيد الجبين، لتستطيع أن تنامَ وننامَ بأمنٍ وأمان، لتسكُنَ الرُّوحُ وتطمئنّ على فلذات كبدها كما لو أنَّها سحر الزّمان.
لا يُدرك الأبناء أن حبّ الأمّ معجزةٌ لا تشرحها حروف الحبِّ ألفَ ألفِ عام، ولا تملك الأمهات شرحاً أبلغ من التعبير عن ذلك الحبّ بالدّعاء.