“وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ * لأعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لأذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ”.
كثيراً ما نتناسى أنَّ ما يكونُ اليومَ، هو كائنٌ مُقدّرٌ مُسبقاً في أقدارنا المكتوبة في اللّوحِ المحفوظِ بأمرِ الله من قبل الخليقة.
الله لا تُرسمُ لهُ الطُّرُقُ “تأدُّباً”، ولا يُشترطُ عليهِ بالدُّعاءِ “إنابةً وخُضوعاً”.
يرسمُ لنا الخير في أقدارنا برحمتهِ ولطفهِ وإعجازهِ وكرمهِ، يرتّبُها ترتيباً فريداً نعجزُ أن نرتّب مثله.
يسبّبُ الأسباب ويُسيّر الظروفَ وييسّرها بدقةٍ متناهيةٍ تُبهرنا فيها حبكةُ السيناريو الآخر وتوازن كفّتَي الميزان الأخير؛ وكان فضلُ الله عليك عظيماً .
يُدهشكَ بالقدرِ الوحيدِ الذي لم يخطر على بالك قط!
يجمعُ جميع المستحيلات في “كُن” واحدة، لتقول لك السعادةُ “هيتَ لك”.
بعد ذاتِ همٍ قد أهمّك، بعدما همَّ يأسُ الدعاءِ بإستحالةِ الإجابةِ وهمّت به، تتنزّلُ عليكَ الرحمةُ من بُعدِ السماء إلى قُرب الأرضِ بين حروف ترتيل آية : ” وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ”.
لم يكن الرزقُ يوماً على الأرض، كان في السماء دوماً، لكنّك لم ترفع رأسك جيداً، كنتَ منهمكاً بالنظرِ إلى الأسفل لما دون النجوم، والله يُريدك أن توجّه نور عينيكَ نحو الأعلى، إلى ما فوق المجرّة ربّما، لما يتناسبُ مع القوّة التي حباكَ بها وأكرمكَ ونعّمك.
كان لزاماً على الهدهد أن يفردَ جناحيه ليحتضن الكونَ ملئ نحره قبل محاولةِ التحليق والطيران، أن يعترفَ بأنّه ضعيفٌ رغم ذكاءه وجماله، وأن يُدركَ أنّ الحبيب والعدوّ واحد!
ذاتُ الهواء يحتضنهُ ويتنفّسُهُ من صدره؛ ثمَّ يُقاومه ويضغطُ عليه ويُحمّلُ ظهرهُ ما لا طاقةَ لهُ به فيُتعِبهُ ويرهقه؛ حالُه مع التوازن في الجهاد مع التّحليقِ كحالنا مع صراعاتِ النَّفسِ في كلِّ منعطفاتِ الحياة؛ وأخصُّ منعطفَ منتصفِ العمرِ نُدركُ عندهُ أنّهُ لم يتبقَّ لنا من الحياة إلا إحسانُ ختامها بعدما يُولّي عنفوانُ الشباب ليلمسنا على استحياءٍ وقارُ الشّيب.
لله في خلقه شؤون، سبحان من أودع في بديع صُنعهِ حريةً وهدوءً لأعصابنا وسكناً لنفوسنا، هناك منظومةٌ كونيّةٌ لكلّ التفاصيل، في طيرانهِ تناغمٌ حركيٌّ وتسلسلٌ واتزان.
” أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ ۖ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ”.
يديرُ رأسه للوجهة التي يرغب التحليق إليها فاتحاً جناحيه بالكامل وإن كانت مُعاكسةً لهُ ابتداءاً ، ينعكسُ نحوها بطريقةٍ مذهلةٍ مادام الهدفُ يستحق، ليرقصَ رقصةً إحترافيةً متقنةً جداً، رامياً همومه مُحلّقاً في الفضاء، باتزانٍ وابداعٍ وانسيابيةٍ متناسقةٍ ومرونةٍ مدروسةٍ ليّنةٍ مُتناغمة.
في صفِّ الرِّيشِ وألوانه حكايةٌ تجعله كلّما إرتفع زادَ جاذبيةً وجمالاً، وكلّما رفرف بجناحيه رفرف له الكون طاقةً وشبعت الرُّوح تغذية.
بين القبض والبسط رغبةٌ ببكاءٍ وحاجةٌ لفضفضة المشاعر، ليس مهماً كونك ستطيرُ للأمام أم للخلف، حلّق أولاً ثمّ توجه، حتى لو كانت بدايتك مائلةً شيئاً قليلاً، تستقيم وتثبتُ لاحقاً ويعتدلُ إعوجاجك بفضل الله.
في ضمّ الذيلِ وبسطِ الجناحين دعوةٌ رائعةٌ مثيرةٌ للتأمّل والتفكّر والتّدبُّر، في تناغم التعاكس و تناوب عملهما وتبادل مهماتهما، واشتراكيتهما في التركيز على الهدف مع تسليم الأمر لله والتوكل عليه وتمام التسبيح له تبارك في علاه.
نحتاجُ طاقةً كي نطير، نحتاجُ أن لا يقصّ أجنحتنا أحد، ونحتاجُ لمن يتفهّم ويقدّرُ أنّ لنا انكساراتنا أيضاً ورقصاتنا المذبوحة، تقصّ قصّة نقطة الضّعف ينقسمُ عندها الجناح انقساماً واضحاً لحظة محاولة الطيران الأوّل؛ انقساماً لا يخفى على عاشق جمال الأجنحة المفتون بسحر ألوان الرّيش.
سبحان من علّمنا ما لا نعلم، وفتح لنا فتوح العارفين، فجعل لنا في نعمة البصر بصيرةً على عظمته تتجلى في خلقه؛ يذكّرنا الهدهد بالملائكة بطريقة ساحرة، يقاوم العقبات، يحتاج بلا شك لطاقةٍ كي يطير ويسبح في السماء، ولا حاجة لداعٍ يدعوه إلى الطيران، منذ البداية هو مهيّأٌ له، الموضوع ليس إختيارياً.
يمكننا جميعاً أن نطير لو بحثنا عن الطريقة الصحيحة، لا تحلم بالإرتفاع شبراً ما لم تبذل جهداً مستميتاً لوأدِ الجهل بالتعلّم الصحيح.
عليكَ أن تفرد عضلاتك مخبأةً بجمال الريش وتضرب بها محققاً شيئاً من التوازن مع ذيلك في الهواء مُعيداً الكرّة حتى تصل مرحلة الإتقان.
كم من المحلّقين في أعمارنا يشعلون فتيل رغبتنا بالطيران معهم، بل بالتحليق أعلى مما وصلوا إليه، بمثل تلك العلاقات الملهمة تتحقق عمارة الأرض في التنافس نحو الأفضل، في رسم الصورة الأفخم عن الراعي في عين الرّعية.
بقي أن أقول:
رغم أنَّ الجناحين يرتبطان إرتباطاً وثيقاً إلّا أن الفطن يُدرك وجود عمودٍ فقريٍّ حسّاسٍ يفصل بينهما على الظهر لتتّزن مرونتهما.
الجمال موضوع نسبيّ، لا يبرئُ الهدهد نفسه من يقينه بأنه أجمل الطيور! ويضربُ بغرور الطاووس عرض الحائط.
هذا الهدهد، أنت وأنا وكل ذو هدف ورسالةٍ ساميةٍ في الحياة يا صديق.
في النهاية، نتشابه جميعنا بشكلٍ أو بآخر.
“أَوَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى ٱلطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَٰٓفَّٰتٍۢ وَيَقْبِضْنَ ۚ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا ٱلرَّحْمَٰنُ ۚ إِنَّهُۥ بِكُلِّ شَىْءٍ بَصِيرٌ”