مضى عشرة أعوام، ونحن لا نستلذُّ سُكوناً كسابق عهدنا، نطفئ الأنوار باكراً، علّنا نستطيع تهدئةَ عقولنا عن التفكير وإغلاق أجفاننا على الشوق يجرحنا كلّ يومٍ مكتوفي الأيدي حياله، ولا حول لنا إلا دعاء رب السماء أن ينزّل السكينة والرضا والأمن والأمان غيثاً مغيثاً لقلوبنا وأرواحنا.
لم تكن ذكرياتنا بذخة، ولا كانت عن حياةٍ فارهة.
كانت عن يومٍ دافئٍ بين أحضان العائلة الأم، يعدلُ ألف يومٍ في كلِّ حضنٍ سواها.
عُذراً أيها العُمر ..
ما ندري كيف نتعامل معك!
عذراً حزيناً يقول: ما أسرعك! ويعاتب: ما أوجعك!
قد كنت تهرول بلا كللٍ ولا مللٍ، فلا ترأفُ بحالِ سيقاننا أعياها الرّكض خلفك، ولا تأبه بتقطُّعِ أنفاسنا في محاولاتٍ بائسةٍ للتّفاهم معك، علّنا نتفق أن نتوقّف لنَقِفَ مرّةً ونستريح معاً.
تتساءل حياة الشّتات في لحظةِ إحباطٍ وذهولٍ وخروجٍ عن الصمت وهذيان: إلى متى هذا الحنين؟
لا أحفظ أسماء مدن وطني، ولا أعرف أسماء أحيائها، ولا حتى أهم شوارعها ومعالمها.
لكنّ خارطة الحبّ في قلبي محفورةٌ منذ الزيارة الأولى لمنازل الخالات والعمّات؛ من أمام بيتنا (الذّي ما صار يوماً بيتنا) هناك، أستطيع بهدوءٍ أن أسير على خطى الذكريات، وأن أصل لبيوتهن جنةً جنةً، وأن أكحّل عينيّ بمرآهن ملاكاً ملاكا.
لعلّ هذه الميزة الوحيدة عبر الأزمان للغربة، أننا نرى الملائكة عاماً بعد عام!
مازال صدى ضحكتها الجميلة يرنّ داخلي، العمّة الكبرى تقول لي ممازحةً: _العمّة بتعمّ والخالة بتخلّ (1).
أقلّب الصّور، وأشتاق وأتساءل: متى تسكن الرّوح بحضنٍ ولقاء؟
ربما لم نلتقِ كثيراً، إلا أن الذاكرة تعود بي الليلةَ عشرين عاماً إلى الوراء، نبكي بحرقة عند الوداع، فتقول العمّة الصّغرى: أحد عشر شهراً من الشوق ونلتقي ثانيةً وتعودون، ما يلبث العام أن يبدأ حتى ينتهي، فلا بأس على قلبك ابنة أخي.
كنّا نقتات على لذيذِ الذكريات خلال العام لنُهدّئ من صخب شوقنا لهم ونواسي وجع حنيننا إليهم، لكنّ حكاية الأشواق انتهت ذات عامٍ لم يكن لنا بعده عودة، ولا يكون.
لكلّ عائلةٍ سجلٌّ حافلٌ من المفردات الموشومة على ظهور الذكريات، لنقل مجازاً إنها شيفرات سعادةٍ سريّة، لا يفهمها إلا من عاشها لحظةً بلحظةٍ وضحكةً بضحكةٍ معهم.
ما زلتُ أسمع صدى صوت أصواتهم عند المسبح، أطفالٌ كثر، كثرٌ جداً من كلّ الأعمار، لم أوفّق في حفظ أسمائهم ولا التمييز بينهم.
كلّهم حول المسبح وفي المسبح، أمهاتهم بالقرب تتشاركن إعداد طعام الغداء لهذا النهار.
اشتقت لهم، لعبق ذكرياتهم، لضحكاتهم، لعشرة أطفال معاً يلعبون ويغنّون: “ألف با بوباية، قلم رصاص ومحّاية” (2). يرقصون على الأساطيح بلا تعبٍ بلا ملل.
أريد أن أنام دون حنينٍ لعودة، دون أن أتذكّر أن لا عودة.
إن حدثت معجزةٌ وعدنا يوماً، سنعود وقد تغيّر الزمان أو المكان والسّكان، ولربّما جميعهم.
سبحان من تجري بيده مقاليد الأمور، سبحان من يُغيّرُ ولا يتغير، اللهم أدخلنا دار السلام بسلام.
= = =
هامش:
(1) مَثَل شعبي يُتندّرُ به، يشير إلى أنّ العمّات أقرب من الخالات لأبناء الإخوة.
(2) لعبة حركيّة قديمة لها دندنةٌ وكلمات خاصّة يحفظها أطفال بلاد الشّام.