كثيراً ما تقول لنا أمي: “ستشتاقون لهذه الأيام”.
وأنا أُخالفها الرأي، وأقولُ إنّ القادم أجمل، والدوائر تدور، والملتقى الجنّة بإذن الله.
أمّي تَحِنُّ لنا يومَ كنّا صغاراً. أمّا أنا، فأستثقلُ شيئاً مّا في هذه المرحلة من العمر وأريد من الصّغار بأن يغدو على عجلٍ كباراً!
أمي تشتاقُ لمّة أطفالها. تُريدنا أن نعيش اللحظة. وأنا أرى أنّ لمّة أحفادي لاحقاً ستؤدي الغرض. ربما لا. من يدري! لا بدّ من خوض التجربة لمعرفة الإجابة.
بلا شك، لقد حظينا بأمهاتٍ كُنَّ أفضلَ منّا كأمهات. لم تكن كلّ تلك المُلهيات في حياتِهن، فكُنا نحنُ حَياتَهن.
اليوم في ألفين وعشرين أتطلع لأن يكبر الأطفالُ سريعاً بصحةٍ وعافيةٍ وتوفيقٍ وسترٍ من الله تعالى. أريدهم كباراً، مع أنّني أدرك من نظرات أمّي أنّهم لن يكبروا في عينيّ مهما مرّت الأيام!
لماذا تستعجلين؟ لا أدري لماذا!
بل ربّما أدري: حاجةٌ في نفس يعقوب، أسأل الله أن يقضيها ولو بعد حين.
صباح اليوم، طلبتُ من ابني أحمد أن يقف على الكرسيّ إلى جانبي. أبدى استغراباً، ثمَّ صعد ووقف. ضحك. لقد أصبح طويلاً جداً. أطول من ماما!
رفعتُ رأسي وعينيّ إليه قائلة: “أحمد، لن تبقى صغيراً مدى الحياة. جميعنا نكبر. سيأتي يومُ تصبح فيه أطول مني بالفعل. العمر لن يتوقف لا هنا ولا هناك! ولكلّ أجلٍ كتاب.
ومساء اليوم أيضاً جربتُ تجربةً غريبةً فريدةً معه. بعد صلاة المغرب، وحينما أسدل اللّيلُ ستائره وحلّ تماماً، قررتُ أن أفصل الكهرباء عن المنزل لدقائق معدودة.
اهتزّ كونُ أحمد. الكونُ الذي لا يكتمل بلا (نت).
قلتُ: “افعل ما شئت، ولكن أحضر لي كأس ماءٍ لطفاً أولاً _بلا ضوء_ إن استطعت”.
هو يعرف أن الحل دائماً موجود عند أمّه، مثلما أعرف ذلك أيضاً (شئتُ أم أبيت).
أحببتُ أن أُذكّره بالنعم التي اعتدناها حتى تخيّلناها جزءاً لا يتجزأُ من حياتنا حتى كدنا ننسى حمد الله عليها كما سابق عهدنا.
كُنا نُعاني من وحدة أطفالنا في الغربة، فجاءت الكورونا لتُفاقم وحدتهم وحدة، ولتزيد قلقنا عليهم من روتين حياتهم اليومية مع أجهزتهم الذكيّة وعوالمها الخفيّة. سلّمهم لنا الله وسلّمنا لهم.
كم مرّة تكرر هذا المشهد في حياتنا! أنّنا نُبصرُ نوراً! فنعي بقلوبنا ونُدركُ بعقولنا الكثير من القيم لحظة التوجيه! فنُربّي أنفسنا من جديدٍ لا إرادياً أثناء تربيتنا لأبنائنا.
لكل منّا في هذا العمر نعمته التي لا يراها، وأنا في مثل هذا اليوم، أظنّني رأيتُ نعمتيَ الأجلّ، وأنا أُحاولُ أن أُريك بعضاً من نِعمك يا ولدي.
الحمدُ لله وكفى.
اللهم احفظ أمّهاتنا أجمعين، واجمعنا بالراحلين، في جنات النعيم.
“رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِين” (سورة النمل: الآية 27).
“رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ” (سورة الأحقاف: الآية 46).