تفّاحة القلب، نور العين، روح الرّوح، وسميّة سلطانة القلب، ونبض قلبي كلاكما يا صغيرة.
تعاتبينني منذ زمن:
لماذا تقرئين أخاكِ في حروفي ولا تجدينك.
تسألين بعتبٍ:
هل أحتجبُ عن عيون الناس هنا أيضا يا أمي؟
ماذا عساي أقول؟
ليس كما تظنّين يا قرّة عيني وسكون نفسي، ليس كما تفكرين يا أميرة.
قاعدة البيان: أنّ الكلماتِ لا تُكتبُ أبداً إن طُلبت، لأنّ الكلمة تدفّقُ الرّوح على ورقة.
وأنا أحبُّ أن أحبسك داخلي إلى الأبد، وأن أغمض عينيّ عليكِ لتبقَي بقربي حتّى النهاية، لا أريد إرسالكِ لأي مكانٍ بعيداً عنّي ما استطعت وما حييت، حتى ولو كان هذا المكان مجرّد نقشٍ على ورقة.
ماذا تريدين أن أكتب يا ماما؟
هل تحتاجين تعبيراً عن الحبّ أكثر؟ لا أظنّ.
هل تريدين تخليداً للحرف تباهين به الكون وكأنّكِ إحدى الملائكة، قائلةً: هذا غيضٌ من فيضِ حبّ أمي لي.
إن كان كذلك، فهو لكِ، ذكرى نورٍ من نهارٍ استيقظت فيه الأُمُّ كأسعد ما تكون الأمهات على غير عادة، وأحبّت أن تُهدي مشاعرها مكتوبةً لكِ، لكِ دوناً عن الكون لتُرضيَ غرور طفولتك، وتروي عطش سؤالك.
“وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ” (سورة الطور: الآية 21).
سمعتها وأنت في أحشائي يا جميلة، أحسستُ يومها أن اسمك “إيمان”، ألا يقولون بأنّ أسمائنا تأتي معنا؟ أتى اسمك معك ذات حلمٍ جميل، فكنتِ ليَ الإيمان، ولا إيمان في قلبي مثلك.
رقيقةٌ كزهرة، خفيفةٌ كفراشة، سريعةٌ كغزال، جادّةٌ كنحلة، مثابرةً محاولةً مجتهدةً كأبهى مسالمةٍ بمددٍ من الله وتوفيقٍ منه تبارك في علاه.
الله يرانا يا إيمان، يرى ويسمع الصغيرة والكبيرة، يعلم ما لا نعلم، لطيفٌ بعباده، وهو على ما يشاء قدير.
وتراكم الأمهات من بعده يا بنيّة، أعلم كم تحاولين وتجتهدين، وهذا يسرّني، وإن لم أُظهر لكِ على الدوام ذلك طمعاً في المزيد.
مثل هكذا يكون غموض الأمهات، تصبحين أماً بحولٍ من الرحمن مستقبلاً، وتدركين أنّ الأمّ في عطشٍ مستمرٍ لرؤية ذريّتها كلّ يومٍ أفضل وأفضل وأفضل.
نفع الله بكلّ ذريةٍ وطرح فيكم البركات وجعلكم لذويكم قرّة أعينٍ تسرُّ النّاظرين، وسخّركم خير خلفٍ لخير سلف، وزرق كلّ ذي حاجةٍ حاجته، وآتى كلّ ذي سؤلٍ سؤله.
أي حبيبتي:
أكتبُ لك، وأنا في زهوةِ شبابي، لا أحتاج منك مساعدةً بعد، وأدعو الله ألا أحتاج.
أكتبً لك، وأنا أعلم أنّي ما كنتُ يوماً أماً عظيمة، لم أقدر أن أكون، ولا أقدرُ أيضاً فكلّنا خطّاؤون.
لطالما كنتُ غاضبةً فوضويةً عصبيةً حادّة الطّباع مزاجيّة، تخفقُ كثيراً ولا تريد لصغارها أن يكرّروا أخطائها مثلها.
أيا جميلة عمري:
أنا أذكر ذلك اليوم تماماً كما تذكرين، ولا ننسى، ونوثّق هذه الكلمات للذكرى لكلّ طفلةٍ في الحياة مرّت بتجربتك.
أذكركِ راكعةً ذات مساء.
تركض ماما إليكِ فيسبقها القدر!
= ما هذا تحت حجاب صلاة طفلتي؟
لا أعرف، ولا تعرف، كلتانا لم نعرف!
لكنّنا بكينا معاً استقبالاً لقدرٍ في الحياة جديد، كان لا بدّ أن نقول له: الحمد لله حتّى يرضى، الحمد لله الضارّ النّافع.
لا أعرف كيف نسيتُ أنك في حضرة صلاة، وأنّك لحظتها ضيفةٌ من ضيوف العظيم، تقفين على باب عنايته الخاصّة.
كلّ الذي أعرفه أني رفعتُ الحجاب عن ظهرك منتصف صلاة العشاء، وارتفعنا لقدرٍ جديدٍ في الحياة لحظة تلك الرّفعة، ولم يعرف النوم لنا طريقاً ليلتها.
اثنتي عشرة ساعة، فصلتنا عن صورة الأشعة، عن تشخيص الطبيب قائلاً: (جَنَف)، نسمعها لأوّل مرّة في الحياة، ولا أحدّثك عن ذاكرة والدتك حينها تتمنى لو أن الزمن يعود بكما إلى الوراء يوماً واحداً فقط، لعلّ ما يجرى يتحوّل خيالاً لا أكثر.
أربعون يوماً من السّعي الحثيث بين الأطباء ذهاباً وإياباً، ثمّ تخضع للعملية الجراحية لأربع ساعاتٍ ابنتنا الصّغيرة، ولا وجع من الأوجاع يشبه خوفنا عليها فيها، وعدّ الدّقائق واللحظات ترقّباً لخروجها لنا صحيحةً بعد سُقم.
تصفُ الإيمان شعورها لحظة الاستيقاظ قائلةً: الحمد لله، ظننت أنه وداعي الأخير لأمي وأبي.
وداعٌ أخير في الثالثة عشر؟ ويح قلبك الطّريّ الجميل بم كان يفكّر، أسأله عمراً طويلاً بالصحة والصالحات لك يا بنيّة.
حمدته ألف مرّة أن علّم الانسان ما لم يعلم وأن علّم لنا الأطباء، وسخّر لنا الدواء، وأن فهّمنا أن منتهى الشّفاء قد يمرُّ عبر أشدّ الألم.
تنجبُ الواحدةُ منّا طفلتها كأميرة، تخشى عليها الخدش من شوكة وردة، وأنا، ذات قدرٍ أوقّع للطبيب بأن يجرح بمشرطه ظهر بنيّتي على طول العمود الفقري لتقويم انحنائه!
هل تستطيعين عدّاً كم مرّةً نُزعت الرُّوح من أمّك أثناء ذلك التوقيع؟
كان شعوراً مريراً لا يشبه أية شعور، أن تتمنى أن تتألم عن طفلك وما باليد حيلة.
ما زلت تريدين منّي أن أكتب بعد؟ بعض الأوجاع خيرةٌ للقارئ والكاتب أن لا تُكتب كي لا تكوى بها القلوب.
امسحي دمعتكِ، ارفعي كتفيكِ، اسمحي لشعاع الشمس أن يقبّل وجنتيكِ كلّ صباح، وأقبلي على الحياة مستقيمةً ما عشتِ بلا اعوجاج، حرّةً أبيّةً هنيّةً رضيّة.
ابنتي الأقوى ..
ابنتي الأجمل ..
ابنتي الأروع ..
معظمُ الأمهات تملكن بناتاً ..
وأنا أملك إيمان ..
الفتاةُ التي شاء لها الرحمن صحةً ومعافاةً وقوةً بكرمه من قلبٍ ضعفٍ ودعاء.
رخّص لها بقيّة العمر ألا تركع ركوعاً كاملاً لحكمةٍ لا يعلمها إلا إياه تبارك وتعالى.
يريدكِ قويّةً يا بنيّة، وأنا أريدك شامخةً لامعةً ساطعةً معتزةً لامعةً بهيةً سَنيّةً مخمليّة.
الله يَقدرُ لنا عظيم الأقدار لحكمته وبرحمته، لا لرغباتنا ولا لأمنياتنا.
الطفلةُ التي لا تستطيعُ أن تركع ركوعاً كاملاً ثانيةً إلا في الجنّة، لا بدّ لها أن تترك في هذا الكون بصمةً وقيمةً أقرب ما تكون الكمال، وأثراً تركعُ البشريّةُ حامدةً وشاكرةً امتناناً للخالق أن قد مرّت على هذا الزمان صبيّةٌ لها من اسمها نصيب، اسماً على مسمّى، كان اسمها في زمنٍ من الأزمان: إيمان.
كوني بخيرٍ يا بنيّة، كوني بخيرٍ يا حبيبتي، كونوا بخيرٍ جميع أميرات الجنف حول العالم.
والدتك الممتنة لإكرام الرحمن لها بك، والداعية على الدوام لك.
= = =
هامش:
الجنف طبّياً: انحناء العمود الفقري.
جاء ذكر الكلمة في القرآن الكريم بمعنى: الميل، في قوله تعالى من سورة البقرة (الآية 182): ” فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ”.